إعلانات

الملاحدة الجدد بين الجهل والضياع الحلقة (3)

أحد, 31/05/2015 - 11:05
المرابط ولد محمد لخديم

وحاول الكاتب في جانب من فكره ودراسته أن يذكر الكتاب القيم لعبد الوهاب المسيرى الموسوم: ب: (الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان) لإيضاح التفكير المادي الغربي لكينونة الإنسان. متحدثا عن القراءة النقدية التي اتخذتها مدرسة فرانكفورت لـ "العقل الأدائي" الباحثة عن جذوره في الخلفية

الأسطورية والفلسفة الهلينية موضحا أن هذه القراءة ما هي إلا توكيدا لما سبق، وإشارة إلى أمر أعمق مما وقفت عنده هذه المدرسة السوسيولوجية ذاتها. فنمط العقل الأدائي هو مظهر للرؤية إلى الكائن الإنساني بوصفه كائنا ماديا.

     مستخلصا أنه و بناءا على هذه الرؤية ينطلق العقل الغربي إلى قراءة مادية للذات والوجود، قراءة لا تنظر إلى الغايات بل تحول كل كينونة ـ حتى كينونة الإنسان ذاتها ـ إلى أشياء أدوات استعمالية.

      وتأسيسا على هذا الكلام فإن نمط تفكير الحضارة الغربية نمط ذو نزوع كمي متمحور حول الأشياء، ولذا فأسلوب مقارنته للوجود هو انتهاج للتحليل الكمي الأدائي المفارق لفلسفة الغايات المجاوزة لسياجات الحس المادي.

     وفي هذا الإطار يأتي الطيب بوعزة، بالمقارنة الذكية التي أنجزها مالك بن نبي في كتابه "مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي" بين قصتي روبنسون كروزو، و حي ابن يقظان والتي هي عبارة عن نموذجين روائيين يمثلان مدخلا نمطي لرؤيتين الغربية والشرفية. معللا ذلك أن قصة روبنسون كروزو للروائي الانجليزي دانيال ديفو (1660 ـ 1731) تدور كلها حول عالم الحس، ولا تلتفت إطلاقا إلى ما وراء.

      حيث أن كروزو لم يشغل نفسه في عزلته إلا بصناعة طاولة خشب والأكل والنوم، أي انحصرت أشواقه وهواجسه في الاهتمام بعالم المادة فقط.

      بينما قصة "حي ابن يقظان" يشغلها هاجس البحث عن الحقيقة فانطلاقا من تأمل فكرة الموت يبدأ السؤال الوجودي عند بطل القصة حي، فينشغل بمعنى الروح، ليخلص بعد سلسلة من التأملات إلى وجود الله الخالق.

         ويستنتج كما هو واضح من سياق المقارنة بين القصتين التمايز بين العقلين الغربي والشرقي، عقل يغوص في المادة ويغرق فيها فينسى ذاته وينسى سؤال الكينونة، وعقل يتشوف إلى ما وراء وينزع نحو تأمله.

         لكن الكاتب ينفرد برؤيته الخاصة تعميقا لدلالة هذا التمايز حيث يقول "أن ديفوا هذا الرجل الذي جاء إلى فن السرد من دكان لتجارة الأقمشة والخردوات لا نراه كتب قصته باستقلال عن حي ابن يقظان بل كما أكد غوتييه سبق لديفو أن قرأ قصة ابن الطفيل، حيث ترجمت إلى الانجليزية سنة 1708 أي قبل كتابة ديفو لقصته بإحدى عشرة سنة.

        لكن عندما أذكر هذا فليس من أجل اتهام ديفو بالسرقة الأدبية بل قصدي أهم من ذلك، كما لا أريد أن أسلك مسلك غوثيه للتوكيد على اطلاع صاحب قصة كروزو على (حي ابن يقظان) وذلك بإبراز ما بينهما من تشابه في الكثير من الأحداث، بل الذي يلفت انتباهي هو المختلف بينهما أكثر من المتشابه، حيث أن ما يهمني هنا هو ما حذفه ديفو لا مستبقاه أو سرقه أو استعاره بفعل التناص من بني طفيل لأنني أرى أن ما حذفه هو بالضبط ما ينقص نمط التفكير الغربي، وما أضافه هو بالضبط ما يميز هذا النمط! فماذا أخذ ديفو وماذا ترك من فصه حي بن يقظان) ؟!.

        لقد استبقى ديفو أحداثا كثيرة، لكنها كلها تتميز بكونها أحداثا كمية شيئية. فإذا استثنينا تعلم اللغة كما علم (أسال) حي ابن يقظان نجد عند ديفو تعليم فرايدي لكروزو، فإن ما يبقى كله يتمحور حول الكينونة المادية مثل: تدجين بعض الحيوانات وبناء البيت وصنع الملابس والسلاح واكتشاف النار.

        أما الذي حذفه ديفو فهو كل تلك الصيرورة التأملية الفلسفية الثرية التي ستخلص بحي ابن يقظان إلى الاعتقاد بالله الخالق، أي أن ما حذفه هو سؤال الحقيقة والنزوع إلى ما وراء!.

        ويصل الكاتب خلال التحليل السابق في سياق المقارنة إلى تقرير اختلاف جوهري في الرؤية إلى الكائن الإنساني ووظيفته في الوجود، حيث تنزع الرؤية الفلسفية للحضارة الإسلامية نحو نظرة كلية كيفية، وتنزع الرؤية الغربية نحو نظرة تحليلية كمية.

        وتتجسد هذه النظرة بوضوح في الاختزال المادي لكينونة الإنسان، حيث تؤول به إلى مجرد حيوان اقتصادي!.

         مستدلا على هذا بكلام مالك بن نبي في سياق تحليل هذا الأخير لقصة ديفو حيث يقول في هذا الصدد: «إذ يعتزل الإنسان وحيدا، ينتابه شعور بالفراغ الكوني. لكن طريقته في ملء هذا الفراغ، هي التي تحدد طراز ثقافته وحضارته، أي سائر الخصائص الداخلية والخارجية لوظيفته التاريخية، وهناك أساسا طريقتان لملئ الفراغ، إما أن ينظر المرء حول قدميه أي نحو الأرض، وإما أن يرفع بصره نحو السماء».

         ولم يكتف الطيب بوعزة بقراءة المفكر الجزائري مالك بن نبي لنموذج كروزو السابقة وتأويله لها فقط، بل إنه استند أيضا إلى قراءة السوسيولوجي الألماني ماكس فيبر في كتابه الشهير «الأخلاق البروتستانتية» التي يؤول فيه شخصية روبنسون كروزو رائيا فيها تجسيدا لنموذج الإنسان الاقتصادي ومحددا لنمط الحضارة الرأسمالية.

         وبعد مقارنته لقراءة مالك بن نبي وماكس فير لنموذج كروزو، يجزم بوعزة أن هذا النموذج ليس ملمحا من ملاح النمط المجتمعي الصناعي فقط، بل هو محدد من محددات نمط التفكير الغربي ككل بدليل: أن الرؤية الكمية إلى العالم لا تبدو فقط في هذا النتاج السردي الروائي ولا في النمط الثقافي والحضاري الغربي الراهن، بل حتى في الخلفية … يتواصل...