إعلانات

السبق يعيد نشر مقال لباحث موريتاني حول العلاقات الموريتانية الجزائرية *

اثنين, 27/12/2021 - 21:00

سأحاول في هذا المقال الذي أسعى من خلاله إلى إبراز بعض أوجه الترابط بين الشعبين الموريتاني والجزائري إلى إعطاء صورة موجزة بالمفهوم الإدراكي للكلمة عن تلك العلاقات التي انتسجت بينهما عبر القرون الكثيرة بحكم الجوار الجغرافي والرحلات للحج ولطلب العلم وعلو السند، والبعوث الدراسية، والمراسلات العلمية والسياحات الصوفية ورحلات الاستيطان التي كانت مددا مستديما لهذه العلاقات تبادلا للمعارف والأفكار وتخاطبا بالفتاوي والأحكام.

 

ولا شك أن الجزائر، باعتبارها في مركز العالم الإسلامي، كانت مرشحة أكثر لأن تكون مصدرة للعلم والثقافة والتصوف. فمكتباتها الضخمة وحواضرها العامرة بالعلم والعلماء الأفذاذ، كل ذلك كان منارة إشعاع استفاد من نورها جنوب الصحراء بعمومه بما في ذلك موريتانيا.

 

وكما تزخر المكتبات الموريتانية بالمؤلفات التي قام بها علماء جزائريون من شراح الرسالة ومختصر الشيخ خليل وغيرها من الكتب المتون، كان لعلماء شنقيط دور لا يستهان به في إذكاء الحركة العلمية في الجزائر ويكفي دور الشيخ سيدي المختار الكنتي على ذلك دليلا.

 

 

وقبل الكلام عن هذه الروابط الفكرية والعلمية لابد من الإشارة إلى جملة من القضايا نرى التنبيه عليها ضروريا لتأطير الموضوع.

 

أولها:

أن البلدين تتوسط بينهما صحراء من أكبر صحاري الدنيا وأقساها مناخا (بردا وحرا) وأقلها نقاط مياه مما يجعل المستمع أو القارئ لهذا العنوان يرتسم في ذهنه بادئ الرأي أن السبل منقطعة والحركة قليلة والتواصل شبه منعدم. غير أن الأمر كان على العكس من ذلك تماما. فالصحراء قبل هذه الألفية الثانية لم تكن بهذه الوعورة والقحولة ومسالك العبور استمرت متعددة ومترسمة والأنشطة التجارية قائمة والأسواق نافقة سواء في الشمال والجنوب.

وإذا كانت المياه السطحية نادرة، بالرغم من وجود آثارها في المنطقة فإن المياه الجوفية تبدو متوفرة وإن كان الوصول إليها من الصعوبة بمكان. فوسيلتها الغالبة هي نبط عيون الماء ولذا أعطاها سكان الصحراء اهتماما كبيرا، وكانت لهم فيها خبرة فائقة تمثلت في تقنيات ناجعة في حفر وبناء الآبار والاهتداء إلى الأماكن التي يمكن الحصول فيها على المياه على مستوى عمق غير بعيد. يقول الإدريسي: “وشربهم من عيون يحفرونها في تلك الأرض عن علم لهم بها وتجربة في ذلك صحيحة”.

 

ثانيها:

أن قرار وثبات الخريطة البشرية للبلدين كما هي عليه اليوم بقيام حدود الدولة الوطنية وحمل الناس لأوراق تثبت وتحدد هوياتهم بشكل واضح وتجعلهم مواطنين من هذا البلد أو ذاك لا يعني بالضرورة أنها كانت كذلك. بل على العكس تماما كانت الحركية الاجتماعية قوية فقبائل البدو الظاعنة كانت تجوب في العصور الخالية كل هذين البلدين جيئة وإيابا وهنالك قبائل لها امتدادات في كلا البلدين ما زالت قائمة مثل كنته وتجكانت وإيدوعلي.

 

ثالثها :

أن التجارة القافلية العابرة للصحراء كانت مسببا لحركة تجارية واسعة عبر التاريخ زادها انتشار الإسلام في ضفة الصحراء الجنوبية قوة وانتعاشا فكانت نعم المعين على الارتباط العلمي والروحي والفكري بين البلدين وكانت منطقة وريثة سجلماسه صاحبة الحظ الأوفر في الجذب التجاري والتعمق العلمي باعتبارها المعبر الأول للقوافل من موريتانيا.

رابعها

أن علماء الجزائر كانت لهم إسهامات كبيرة في تفعيل الحركة العلمية في جنوب الصحراء عموما وفي بلاد شنقيط على وجه الخصوص. يمكن أن نذكر منهم على سبيل التمثيل :

• أبو عبد الله الشريف التلمساني الذي كان كتابه في الأصول متداولا بين الموريتانيين

• أبو عثمان سعيد بن محمد العقباني شارح خليل،

• أبو عمران موسى بن عيسى المازوني،

• أبو يعلى الزواوي،

• أحمد بن نصر الداودي،

• محمد بن عبد الكريم المغيلي،

• محمد بن أب المزمري التواتي،

• عبد الرحمن الأخضري البسكري من أهل بنطيوس،

• أحمد المقري،

• محمد المقري،

• الشمقمقي،

• عبد الكريم بن امحمد بن أبي محمد التواتي الذي كانت تربطع علاقات علمية بعلماء مثل احمد باب التنبكتي،

• عبد الرحمن الثعالبي،

• أحمد بن أحمد الغبريني،

• أبو عبد الله محمد بن محمد المقري الذي درس عليه ابن خلدون ولسان الدين بن الخطيب،

• أبو العباس أحمد بن يحيى الونشريسي صاحب المعيار.

 

وسأركز أكثر في هذه الكلمة على محطات تاريخهم الثقافي ابتداء من تعرفهم على الإسلام إلى أن اكتمل المشهد الديني والثقافي والسياسي عندهم، واستقر على ما هو عليه في الواقع القائم.

 

فمن الجلي أن ارتباط سكان الشمال الإفريقي بسكان بلاد الصحراء والسودان كان وثيق الشد مبروم العُرى. فالعلاقات بين ضفتي الصحراء ظلت متينة ومتواشجة منذ القديم، وعمليات التأثر والتأثير بين أهل هاتين الضفتين ما فتئت مستمرة وحبلها موصول، وقساوة الصحراء ووعورة جوبها لم تكن بالدرجة التي هي عليها في الأعصر اللاحقة. فالجبهة المدارية كانت تتوغل إلى الشمال أكثر مما هي عليه في الوقت الحالي، لذا كان حظ المناطق الشمالية من الأمطار أكثر خلال العصور السابقة. ولذا لم تقم عوائق كبيرة تضعف من حركة الناس والمال والأفكار.

 

وتشير أغلب المصادر التاريخية التي تعرضت لتاريخ حركة الفتح الإسلامي إلى أن منطقة جنوب غرب الصحراء الكبرى قد عرفت دين الإسلام بعد فترة قليلة من دخوله إلي الشمال الإفريقي. على ذلك درج أبو عبيد الله البكري وابن عذارى المراكشي وابن خلدون وغيرهم من المؤرخين العرب الذين تعرضوا لذكر بعض الأحداث في هذه الجهات.

 

لقد حمل تجار القوافل العبء الأكبر في تثبيت دعائم الإسلام في شتى بقاع جنوب غرب الصحراء ونشره بالقول اللين بين سكانها. فشكلت رحلاتهم في أرجاء تلك المناطق وعلاقاتهم بسكانها وعلاقات السكان المسلمين بمجاوريهم من غير المسلمين تيارا انسابت عبره تعاليم الإسلام وانتشرت مبادئه بخطوات بطيئة وثابتة. وكان من نتائج ذلك أن أصبحت مملكة التكرور مسلمة عند بداية القرن الخامس الهجري. وعملت على نشر الإسلام في الممالك الإفريقية المجاورة لها، وعلى ترسيخه في نفوس من أسلم قبل ذلك.

 

كما أثرت حركة الخوارج تأثيرا عميقا في الإسلام في هذه البلاد وساهمت في إعطائه صبغة التقشف التي تتناغم مع طبيعة أرضه وساكنيه والتي تتناقض بحدة مع البذخ الذي شهده المسلمون في المشرق أو في الأندلس. وربما يكون هذا التقشف والتجرد للدعوة هو الذي ولد ذلك الاتجاه الصوفي المغرق في التبتل الذي عرفه المجتمع منذ القديم.

 

وقد عملت كل من الدولتين : الصفرية والإباضية على تشجيع التنقل بين ضفتي الصحراء وعلى نشر مذهبيهما بتفان وإخلاص في شعوب الجنوب فأسست قبيلة مكناسة وهي من زناتة وكانت صفرية في سنة 757م مملكة سجلماسة على طرف الصحراء وأصبحت مركزا لتجمعاتهم ومنطلقا لتحركاتهم ومثوى لهم ومنقلبا. ورافق ظهورهم بهذه الناحية دخول مذهب المعتزلة الواصلية (أتباع واصل بن عطاء) الذين استفحل أمرهم في سجلماسة. وكانت هذه المملكة التي حكم بها بنو مدرار تتحكم في الواحات وطرق القوافل إلى بلاد السودان، ونرجح أن لهم يدا طويلة في نشر الإسلام في منطقتنا بالذات.

 

وقد سيطر الإباضية في عهد الرستميين على جميع أبواب ومداخل الصحراء فكانوا القائمين الفعليين على تجارة القوافل. فقد أدى استقرارهم على أطراف الصحراء في واحات فزان وجبل نفوسه وغدامس وواحات الجزائر منذ القرن الثامن الميلادي إلى ارتباطهم القوي بتجارة الصحراء وعزز من ذلك الارتباط اعتناق مجموعات من قبيلة هوارة وزناتة للمذهب الإباضي وتخصص كثير منهم في التجارة عبر الصحراء. وكان لهم بموازاة ذلك إسهام كبير في نشر الإسلام في القرون الهجرية الأولى جنوب الصحراء، خاصة أنهم قد اعتمدوا على تكوين رجال الدعوة الذين كانت مهمتهم الأولى نشر الدين الإسلامي ولو تحت شعار التجارة. وكانت لهم برامج معدة لأهل الدعوة تضمنها نظام العزابة.

 

يقول ابن عذارى وهو يتحدث عن دخول الفكر الإباضي إلى المغرب قبل دخول الأدارسة: “فر عبد الرحمن بن رستم إلى الغرب بمن خف من أهله وماله، واجتمعت إليه الإباضية وعزموا على بناء يجمعهم، فنزلوا بموضع تيصرت، وهي غيضة بين ثلاثة أنهار، وكان ذلك سنة 161هـ”.

 

لقد تلازم انتشار الإسلام في جنوب الصحراء مع حركة التجارة. ولذا ذهب أغلب الدارسين إلى أن الإسلام الأول كان حكرا على جماعات الخوارج والأباضية انطلاقا من دولتيهم في تاهرت وسجلماسه نظرا لأن تلك الجماعات كانت تسيطر على مداخل الصحراء.

 

وربما كان هذا هو الذي دفع بفقهاء المالكية في القيروان في القرنين التاسع والعاشر الميلاديين إلى الفتوى بأن التجارة مع بلاد السودان كسب غير طيب ويتحرزون منه. ويذهب ابن أبي زيد القيرواني إلى مساواة التجارة مع بلاد السودان بالتجارة مع أرض العدو. هذا إذا تذكر المرء أن البلاد السودانية لم تكن أرض حرب ولذا فلا يجد الشخص تفسيرا لهذا الموقف إلا محاولة ضرب مصالح الاقتصادية للخوارج والأباضية المحاربة لأهل السنة آنذاك. ولذا سرعان ما تختفي تلك الفتاوى مع مطلع القرن الحادي عشر مع سيطرة الجماعات السنية على تجارة الصحراء بقيام حركة المرابطين على كامل المنطقة.

 

وبعد القرن الخامس الهجري شمل الإسلام السني أغلب مناطق هذين البلدين، فشجعت وحدة المعتقد والمذهب (الأشعرية والمالكية) على تقريب الصلة بين سكانهما فكان السفر حجا أو طلبا للعلم والمال معينا ثرا للاستزادة من العلم: دراسة وكتبا وإجازات، فنشأ عن ذلك تراكم معرفي وروحي جعل أبناء موريتانيا في القرون اللاحقة مكتفين في هذه الميادين بل مصدرين لها.

وسنرى من خلال المعطيات المتوفرة وهي غيض من فيض كيف كان الإفادة على مستويات متعددة وحقول معرفية مختلفة من علوم آلة وعقائد وفقه وتصوف.

 

على مستوى علوم الآلة

بالنسبة لعلم المنطق فأهم نصوصه الرائجة في موريتانيا والمتداولة بين العلماء والطلبة وبها الدرس والتدريس هي مؤلفات كل من محمد بن يوسف السنوسي التلمساني، وعبد الرحمن الأخضري البسكري، ومحمد بن عبد الكريم المغيلي التواتي.

 

فالسنوسي هو صاحب كتاب المختصر في المنطق وهو كتاب جامع يدرسه الطلبة المنتهون. وقد علق عليه بعض العلماء الشناقطة منهم محنض باب بن اعبيد.

 

أما المغيلي فله رجزه في المنطق الذي شرحه كثيرون كأحمد باب التنبكتي ومحمد بن عمر بن أقيت. ومن المعروف أن المغيلي كان مهتما بالمنطق كثيرا ومناظرته للسيوطي حول حكم الاشتغال بعلم المنطق معروفة ومؤلفاته في هذا الفن هي المرجع الأول في الموضوع ومن أشهرها إضافة إلى رجزه السالف الذكر كتاب: منح الوهاب في رد الفكر إلى الصواب الذي طبع مؤخرا.

 

وبالنسبة للأخضري فهو عالم بسكره الذي طبقت شهرته الآفاق ولد سنة 918هـ/1512م وتوفي سنة 983هـ/1575م صارت مؤلفاته متونا تدرس في عموم هذه البلاد كنظم الجوهر المكنون في البيان، ومختصر العبادات في الفقه المالكي، والسلم المرونق في علم المنطق. فنظمه المسمى السلم المرونق في علم المنطق هو عمدة التدريس والدرس في المحاظر. ولا أدل على ذلك من كثرة الشروح والتعليقات عليه. نذكر منها :

• محنض بابه بن اعبيد،

• انبوي اعمر بن الامام،

• الشيخ محمد حبيب الله بن مايابا،

• محمد عبد الله بن البشير،

• لمهابه بن الكالب إميجن،

• عبد السلام بن حرمه،

• غديجه بنت العاقل،

• الشيخ محمد الامين بن محمد المختار الجكني،

• سيدي بن أحمد بن حبت الغلاوي،

• منظومة الجواهر لابن طيب،

• محنض بابه بن اعبيد،

• عبد الرحمن بن محمذن فال بن متالي،

• محمد محمود بن الواثق.

 

وبالنسبة لعلوم اللغة فيعد نظم الآجرومية في علم النحو لمحمد بن أب المزمري التواتي أهم متن يدرس في المحاظر الموريتانية للمبتدئين. وقد شرحه علماء كثيرون من هذه الشروح :

• شرح اندَ عبد الله بن سيدي أحمد بن محمد الغيث المحجوبي (ت.937هـ).

• شرح صغير ووسط وكبير للطالب محمد بن الطالب الصديق البرتلي: (ت. 1210هـ).

• شرح عبيد ربه لسيدي عيسى بن احماه الله الجعفري الولاتي: (ت. ق. 12هـ).

• المنبه على عبيد ربه لمحمد عالي بن سيدي بن ساعيد (ت. 1310هـ)

• شرح عبيد ربه لمحمد يحي بن سليمة اليونسي

• شرح عبيد ربه لمحمد حبيب الله بن مايابا الجكني،

• شرح عبيد ربه لمحمد المختار بن أحمد بن انباله،

• سلم المذنب علي عبيد ربه لمحد مختار بن محمد الأمين اليعقوبي،

• شرح عبيد ربه للحاج بن فحفو المسومي.

 

كما يعد نظم الجوهر المكنون في البلاغة للأخضري النص المقرر لهذا الفن. وقد قامت عليه شروح منها :

• تعليق الشيخ محمد عبد الله بن أحمدي،

• شرح الشيخ حمد الخضر بن مايابا المسمى (إبراز المصون على الجوهر المكنون).

 

على المستوى العقدي:

لا تخبرنا الوثائق المكتوبة الموجودة بين أيدينا ولا الشفهية المتاحة عن وجود غير المذهب الأشعري عند أبناء منطقة شنقيط. فهو ـ فيما يبدوـ وحده الذي عرفوا من مذاهب الاعتقاد المتعددة التي انتشرت في عموم العالم الإسلامي بل وفي أجزاء كثيرة من بلاد المغرب.

 

كما لا تذكر أنهم أخذوا بغير العقيدة السنوسية من أشكال صياغة هذا المعتقد الأشعري. ولذا نحسب أنهم دانوا بها منذ القديم وانتشرت بينهم وترسخت في ثقافتهم قريبا من أيام المؤلف مُحمَّد بن يوسف السنوسي عالم تلمسان ومتكلمها وصوفيها. فمثلت بذلك كتب هذا العالم المتكلم مرجعهم الأوحد في هذا المعتقد كما صبغت إنتاجهم العقدي بصبغة خاصة.

 

ولم نتمكن لحد الساعة من ضبط سند السنوسي في علم العقائد وإن كنا نعرف أنه أخذ عن مشايخ من تلمسان التي كانت أيامه ملتقى أهل العلم وبندر أهل العرفان ممن شتتهم الحوادث فجاؤوا من كل فج واستقروا بها وأنه درس إرشاد الجويني على أبي القاسم الكنباشي الذي عزنا ربطه بعلم من أعلام الكلام الأولين.

 

وإذا كان الفكر الأشعري سرعان ما خمد أواره بعد زوال دولة الموحدين، فإنه قد وجد انطلاقته القوية مع ظهور مؤلفات الإمام عبد الله محمد بن يوسف السنوسي الذي دعا للتجديد وحارب التقليد، فكان دوره متمثلا في ترميم المذهب وإعادة بنائه، واستطاع بذلك أن يؤسس مرحلة جديدة من مراحل تطور المذهب الأشعري، كان لها تأثير جلي على صيرورته في قابل الأيام.

 

وقد عرفت المنطقة ابتداء من القرن 10هـ/ 16م فترة ازدهار كبير للعقد الأشعري السنوسي تعطينا الآثار والوثائق المتبقية عنه معلومات جد دقيقة. فابتداء من هذا التاريخ بدأت تترسخ جذوره وتتوطد أركانه في موريتانيا وما حاذاها من حواضر جنوب الصحراء بشكل ملحوظ. ومن الشواهد على ذلك ما ذكر أصحاب التراجم من أن الفقيه محمد (بغيغو) بن مَحمود بن أبي بكر الونقري (ت. 1002هـ/1594م) قد نظم صغرى السنوسي.

 

ومنها أيضا ما ذكره الفقيه محمّد بن أبي بكر بن الهاشِم الغلاوي المتوفى سنة 1069هـ في إحدى فتاويه من أن أحد علماء المنطقة المتقدمين عليه في الزمان من قبيلة أولاد ادليم ويسمى أبا محمد عبد الله (ت. 995 هـ) قد شرح صغرى السنوسي. بل إن هذا الشارح الدليمي يبدو ضليعا من الفن راسخ القدم في تفريعاته. فقد رجح القول بتعلق السمع والبصر بالموجودات والمعدومات ناقلا ذلك عن بعض المتصوفة خلافا لجمهور أهل السنة القائل بتعلقهما بالموجودات لا بالمعدومات. وقد علق أبو بكر بن الهاشم على هذا القول بما نصه: “واختاره عبد الجليل القصري. وقال شيخنا مُحَمَّد بن المُختار هذا القول ليس بشيء والله أعلم”.

 

فابتداء من هذا التاريخ إذن قرت كتب السنوسيات وإضاءة الدجنة لأحمد المقري التلمساني ومنظومة الأوجلي المسماة “دليل القائد في علم العقائد” في برامج المحظرة. وفي هذا التاريخ أيضا بدأ العلماء المحليون تداول هذه المؤلفات فقاموا عليها بعدة من الشروح والتعليقات.

 

وابتداء من هذا التاريخ أيضا اشتهر من أهل المنطقة كثيرون بالتبحر في علم الكلام خاصة خلال القرنين 11هـ/17م و12هـ/18م فكثرت أنظامهم ورسائلهم ومناظرتهم في هذا المجال، ويمكن أن نتبين حجم إسهامهم هذا من خلال قراءة الجزء الثاني من موسوعة الفتاوى المتعلق بتراجم العلماء.

 

وكان عبد الله بن بو المختار (ت. 1103هـ) أول من قدم بمنظومة أحمد المقري المسماة: “إضاءة الدجنة”، وكان مُحمَّد اليدالي بن المختار بن محم سعيد (ت. 1166هـ) أول من ألف كتابا مستقلا في العقائد ساه “فرائد الفوائد” وهو يعد أهم وأول كتاب ضخم في العقيدة الأشعرية السنوسية ألف في هذه المنطقة. وأكثر الكتب تداولا داخلها وخارجها وأشدها تواتر ذكر في فتاوى ومؤلفات العلماء اللاحقين من أبناء المنطقة ومن غيرهم.

 

وبعد القرنين: 11هـ/17م و12هـ/18م تتالت شروح العلماء من أبناء المنطقة لهذه النصوص.

فمن شروح السنوسيات:

• شرح الحاج الحسن بن آغبدي (ت. 1123هـ) لأم البراهين وهي صغرى الصغرى.

• شرح الطالب أحمد بن محمد رارَه (ت. 1210هـ) لأم البراهين ونظمه لهذا الشرح.

• شرح الطالب محمد بن بوبكر الصديق (ت. 1219هـ) لصغرى السنوسي

• شرح أحمد بن محمد العاقل (ت. 1244هـ) للسنوسية الكبرى والصغرى

• شرح محمذن بن أحمد بن محمد العاقل (ت. 1291هـ) للسنوسية الوسطى

• نظم محمدُّ بن حنبل (ت. 1300هـ) للسنوسية الوسطى وقد سماه: “حلية الألباب”.

• شرح عمر بن ابنُ عبدم (ت. 1333هـ) لصغرى السنوسي.

• نظم حيمدَّ بن انجبنان لأم البراهين.

• شرح المختار السالم بن عبد الله بن محمد بن عباس (ت. 1362هـ) لنظم حيمد بن انجبنان.

 

كما شرحت إضاءة الدجنة عدة شروح منها:

• شرح محمد بن المختار بن الأعمش (ت. 1107هـ)

• شرح عبد الله بن أحمد بن الحاج حمى الله (ت. 1209هـ) المسمى: “تقرير المنة على إضاءة الدجنة”.

• شرح النابغه بن اعمر (ت. 1245هـ).

• شرح محمد يوسف بن عبد الحي (ت. 1328هـ).

• شرح محمد بن كداه المسمى: “تنوير الجنة”.

• شرح عثمان بن الطالب مومن المسمى: “عون ذي المنة”.

• شرح عبد القادر بن محمد بن محمد سالم (ت. 1337هـ).

• شرح محمد يحيى بن ابوه.

• شرح محمد بن محمد النابغة (ت. 1383هـ).

• شرح عبد الرحمن بن بلال (ت. 1360هـ).

• شرح محمدُّ السالم بن الشين (ت. 1387هـ).

 

ولا شك أن التعمق الكبير والانتشار الواسع للدرس العقدي السنوسي تأكد مع المختار بن بونه (ت. 1220هـ) الذي يعد من أكبر رموز المدرسة الأشعرية في المنطقة وأنشط المدافعين عنها. يقول أحمدُ الصغير بن حمى الله بن أحمد عنه ما نصه: “حامل راية علم الكلام في عصره الواضع عنهم أعباء إصره”. لذا برزت دعوة لمجيدري بن حبل (ت. 1204هـ)، ردا على هذه النزعة الموغلة في التعمق في الكلام والاستدلال.

 

وكان المختار بن بونه الذي وسعت مدرسته مجمل أطراف البلد قد أرسى دعائم الأشعرية وثبت بنيانها خاصة في نظمه المتداول داخل المحاظر الموريتانية والمعروف باسم: “وسيلة السعادة فيما تضمنته الشهادة”. وقد قام فيه بتلخيص كتب السنوسي في كبراه ووسطاه وصغراه.

يقول في مقدمته ا:

نظما حوى عقائد الشريف *** محمد السنوسي الظريف

لخصت فيه ما حوته  مع ضمن وسطاه وضمن الصغرى الكبرى
وقد حظيت الوسيلة هي الأخرى بالكثير من الشروح والتعليقات من أهمها:

• شرح محمد عبد الله بن الطالب أحمد بن أبي بكر (ت. 1263هـ).

• شرح حبيب الله بن الأمين (ت. 1270هـ).

• شرح أحمد بن أمينو (ت. 1328هـ/1909م) المسمى: “نهج الفلاح والإفادة إلى معاني وسيلة السعادة”.

• شرح عبد الرحمن بن محمذن فال بن متالي (ت. 1337هـ).

• شرح أحمد بن المختار (ت. 1324هـ).

• شرح محمد بن أمينُ بن الفراء المسمى: “الإفادة.

• شرح عبد القادر بن محمد بن محمد سالم (ت. 1337هـ) المسمى: “المباحث الجليلة”.

• شرح محمد الحسن بن أحمدُّ الخديم.

فسند أبناء المنطقة إلى الإمام السنوسي.

 

يتصل بسيدي أحمد بن أيجل الذي بث العقيدة السنوسية عن سيدي عبد الله بن محم بن القاضي عن أحمد بن يعقوب عن عيسى بن مُحمَّد بن أحمد الجعفري الثعالبي الجزائري (دفين الجزائر العاصمة وصاحب التفسير المعروف) عن أحمد المقري (صاحب إضاءة الدجنة والعقد الفريد) بن محمد المقري عن سعيد المقري (عم أحمد) عن ابن ملال عن سعيد الكفيف عن السنوسي (ت. 895هـ)

 

على المستوى الفقهي

ينتشر الفقه المالكي في كل منطقة الغرب الإسلامي منذ عهود بعيدة. وترجع نشأة المذهب المالكي إلى آراء وفتاوى إمام المدينة مالك بن أنس الأصبحي (ت. 179هـ) وآراء تلامذته من بعده.

 

ولقد مر المذهب المالكي بعدة مراحل في مسيرته نحو الاكتمال، بدءا بمرحلة التأسيس التي تكفل بها الإمام مالك نفسه. فنظر في الأصول التي يمكن أن يعتمد عليها في اجتهاده ورتب عليها الفروع التي تناسب منحاها. ثم جاءت مرحلة التفريع وهي التي ظهر فيها أتباع الإمام مالك وتلامذته فأخذوا بمنهجه وأسسوا الإفتاء في الحوادث والوقائع بربطها بأصوله وقواعده. ثم جاءت من بعد ذلك مرحلة النظر فيما أنتجه أصحاب التفريع الفقهي والاجتهاد المذهبي في تحقيق المناط في الوقائع المستجدة فيما ينطبق عليها من تلك الصور الفرعية وفيما لا ينطبق عليها كل حكم منها على حدة بمراعاة أصول المذهب في كل ذلك. ثم جاءت مرحلة تنقيح أقوال المذهب واعتبار الدليل الأقوى منها من حيث الرواية والدراية. وأخيرا كانت مرحلة الجمع والاختصار وقد جاءت بعد استقرار المناهج والنظر في الفروع الفقهية تخريجا وتطبيقا وتنقيحا.

 

ومن أهم المختصرات الفقهية المالكية وأكثرها نفعا وخاصة للمبتدئين مختصر العبادات لعبد الرحمن بن محمد الأخضري، وكتاب الأخضري هذا تكاثرت شروح الشناقطة عليه مما يدل على عظيم الاهتمام به وبالغ فائدته منها:

• الحاج احمد بن الحاج الامينسماه المفيد ت. 1157هـ

• أحمد بن أجواد بن البار

• النابغة الغلاوي

• محمد بن محمد سالم

• الخليل بن عبد الحي

• امبيريك بن ميلود

• الشيخ باي بن الشيخ سيدي محمد الكنتي

• عبد الله بن الحاج حماه الله

• محمد يحيى بن سليمة

• عبد الله بن محمد الامين التندغي

 

كما مثلت شروح العلماء الجزائريين لمختصر الشيخ خليل مرجعا مورودا للعلماء الشناقطة ويمكن أن نذكر من هذه الشروح:

 

على المستوى الصوفي

• يمثل القرن السادس الهجري البداية الفعلية لقيام الطرق الصوفية المنظمة على مبدأ الشيخ والمريد والخوانق والورد، وانطلاقتها الأولى نحو الانتشار والتمدد. فظهرت الطريقة القادرية المنسوبة لعبد القادر الجيلاني (ت. 561هـ/1166م). ثم الطريقة الشاذلية على يد مؤسسها أبي الحسن الشاذلي. ثم الطريقة الرفاعية المنسوبة لأبي العباس أحمد بن الحسين الرفاعي (ت. 570ه‍ـ/1173م). ثم الطريقة النقشبندية التي ظهرت في القرن التاسع مع مُحمَّد بهاء الدين البُخَاريّ النقشبندي (ت. 791هـ). ثم الطريقة التجانية التي ظهرت مع أبي العباس سيدي أحمد التجاني (ت. 1230هـ) في القرن الثالث عشر الهجري.

 

ولم يفتأ سكان منطقة الغرب الإسلامي، قبل الفترة التي نجد فيها تمكنا للطرق الصوفية وانتشارا واضحين للعيان، يمارسون نمطا من التدين تغلب عليه المسحة الروحانية المترهبة التي تتجلى في التقشف في الملبس والمأكل والمسكن، والتجافي عن الدنيا وأهلها، والابتعاد عن الأمور الجمهورية، والانزواء والتبتل وتكريس الوقت لخدمة العلم والدين وتداول أخبار الأولياء والصالحين ونشر كراماتهم وخوارقهم والتوسل بهم والتعلق بأذيالهم وتطلب مواطن البركة في كل شيء.

 

وقد ترك هذا المذهب بصمات واضحة في المجتمع وإن بدا أن لهذا المنحى الروحي التبتلي جذورا أبعد في التاريخ. فهو يمتد من أيام تحكم الأباضية والشيعة في المنطقة حتى عهد المرابطين الذين صورهم المؤرخون أعداء للتصوف ألداء. وربما يكون هذه المسلك المتأله “سابقَ العهد” –حسب التعبير النحوي- الذي قوّى من انضواء السكان في الطرق الصوفية حين دخلت المنطقة، فكانت هذه الميول الصوفية الملاحظة عند السكان، تبدو أحد أبرز الأسباب الدافعة لهم إلى الانتظام في مؤسسات التصوف الطرقي لما دخلت المنطقة بشكل شبه كلي وسريع. فكل فرد من ساكنة هذه البلاد هو بحكم النشأة عضو في احدى الطرق الصوفية التي يتبناها المجتمع.

 

خاصة أن رجال التصوف أي مشايخه الفعليين ظلوا دائما أكثر تحبيبا إلى الناس من غيرهم من أهل الدين الآخرين نظرا لزهدهم في المال والسلطة والبنين، ومظاهر الحب والرحمة والإحسان التي امتازوا بها وكونهم موزعين للمال لا جمعة له. ونظرا لما يظهر على أيديهم من البركات والخوارق التي تشبع رغبات الناس وتؤثر في واقعهم وتقوي ارتباطهم بهم وتعلقهم.

 

وتعتبر الجزائر من أهم المسارب التي دخل منها التصوف الطرقي إلى بلاد شنقيط، وأكثر الطرق الصوفية التي دخلت المنطقة انتشارا، لما أخذ بها من الناس ولما عمت من الجهات، هي الطريقة الشاذلية والقادرية والتجانية وإن اختلفت الثلاثة في شكل انتشارها وفي طبيعة ممارساتها وفي ترتيب أولوياتها وفي قوة تأثيرها وسعة مدى الأخذ بها والانضواء تحتها.

 

فكانت الطريقة القادرية أول ما دخل البلاد في القرن العاشر الهجري بفرعيها الكنتي والفاضلي حسب تصورنا، وربما تكون الطريقة الشاذلية بفرعيها الناصري والغظفي قد زامنتها أو جاءت عنها متأخرة قليلا، ثم التجانية بفرعيها الحافظي والحموي.

 

الطريقة القادرية

تنسب الطريقة القادرية إلى الإمام عبد القادر الجيلاني (ت. 561هـ/ 1166م) دفين بغداد الذي عم ذكره مدويا في الخافقين واستمر أثره باديا على وجه الدهر في معظم دار الإسلام كما تنبأ له شيخه عندما خاطبه بقوله: “كل ديك يصرخ ويسكت إلا ديكك فإنه يصرخ إلى يوم القيامة”.

 

ولقد انتقلت القادرية إلى بلاد المغرب على يد أبي مدين شعيب بن حسين الأنصاري (594‏هـ/1198م‏) دفين وادي يسر قرب تلمسان الذي حج ولقي عبد القادر الجيلي وألبسه الخرقة وأودعه الأسرار والأنوار. فكان أبو مدين من أبرز من حملوا تعاليم هذه الطريقة إلى بلاد المغرب ونشروها بين سكانه. ويكفيه من ذلك فضلا أنه أخذ عنه عبد السلام بن مشيش الذي انتشرت القادرية على يده، كما أخذ عنه أحمد الرفاعي صاحب الطريقة الرفاعية المنتشرة في بلاد المشرق.

 

وتنقسم الطريقة القادرية، كما عرفت في موريتانيا، إلى شعبتين كبيرتين. تعرف الأولى منهما ب