بين القول بأن اللغة أداة محايدة باعتبارها الوجود المادي للفكر كما عند الفلاسفة وعلماء اللغة، وأن العبرة بمضمونها وثرائها وقوتها في التعبير عن عصرها فلا مشكلة في الأصل مع أية لغة مهما كانت إلا وفق هذه القياسات، وبين من يرى اللغة مصدرا غير مادي من مصادر القوة في علاقات الأمم والشعوب، وسلاحا قويا تستخدمه الدول في علاقاتها الخارجية وترتكز عليه سياساتها الثقافية والاقتصادية والسياسية، وبالتالي فهو قوة ناعمة ضاربة وأداة اختراق ثقافي.
وبين الرأيين يظل واقعنا بتناقضاته وإرثه أكثر عنادا، إذ لا معنى أن نضع أنفسنا في حرب مع لغة مهما كانت، خاصة إذا كانت عمليا تشكل أداة التعبير الرئيسية لدى عدد مهم من مواطنينا ومن مختلف الفئات والأعراق، والأهم من كل ذلك أن الإنتصار للعربية يبدأ بتطويرها وترقية مصطلحاتها وإثراء قواميسها بمفردات تعبر عن العصر وعلومه وحضارته وتواكب الجهد البشري في إبداعاته وابتكاراته التي لا تتوقف.
لقد استفادت الإنكليزية من الإرث الاستعماري في انتشارها دون شك، لكن ثراءها في التعبير عن العصر هو ما جعلها اللغة الأولى في عالم اليوم، بينما توقفت العربية عن تطوير قدراتها التعبيرية منذ عهد بعيد رغم انتشارها الكبير بفضل الإسلام في القرون الماضية، إلا أنها اليوم وبشكل عملي لا تزيد أن تكون انعكاسا لواقع العرب في أبعاده المختلفة.