عرفت موريتانيا خلال العقود الثلاث الأخيرة تمايزا طبقيا واضحا، وذلك عقب التحول الاقتصادي الذي شهدته البلاد منتصف الثمانينات وما صاحبه من برامج اقتصادية بدأت مع برنامج التقويم الاقتصادي والمالي (1985-1988)، ثم برنامج التصحيح الهيكلي (1992-1997)، ثم ما يسمى بالإطار الاستراتيجي لمحاربة الفقر (1999-2004)، وغير ذلك من البرامج التي لم تؤدي في مجملها إلى بناء اقتصاد مهيكل بقدر ما فاقمت الاختلالات البنيوية للاقتصاد وتسببت في تجذر الطبقية المجتمعية بشكل كبير، حيث استأثرت أقلية متنفذة بالمليارات التي صرفت في تلك البرامج فيما اقتصر حظ الطبقة العامة على المعاناة جراء تخلي الدولة عن بعض مسؤولياتها تجاه المواطنين استجابة لشروط المانحين الدوليين، من جهة، ثم ارتفاع معدلات التضخم من جهة أخرى. ومع استفحال الفساد وانتشار الجهل والأمية تشكلت طبقة قليلة تضم القادة السياسيين وكبار الضباط وشيوخ القبائل، وهي الطبقة المتحكمة في أزيد من 90 في المائة من ثروة المجتمع اليوم. وبسرعة فهمت هذه الطبقة أن استمرار تحكمها مرهون بضمان تعليم أبنائها بشكل جيد، فأنفق أصحاب النفوذ ملايين الأوقية على تعليم أبنائهم في المدارس الأجنبية وفي جامعات اوروبا وأمريكا، وهكذا فمن خلال الاستثمار في تعليم الأبناء، ضمن الجيل الأول المتنفذ للأجيال القادمة التحكم في الوظائف السامية، واستمرار المكانة المرموقة التي يحظون بها، خاصة في ظل انهيار التعليم العمومي وانتشار الفقر وعجز باقي الطبقات عن تعليم أبنائها تعليما يجعلهم منافسين حقيقيين لأبناء النافذين. هذا الاستثمار في الأبناء تولد عنه شعور لدى الطبقة المتنفذة بأحقيتهم في المكانة التي يحظون بها متناسين أن الفساد والمال هو ما قادهم لهذه الوضعية، بل إن الظروف الاقتصادية والسياسية التي فرضوها على المجتمع تجعل الانتقال من الفقر إلى الثراء مسألة غاية في الصعوبة ما لم يكن المرء ينتمي لإحدى العائلات الثرية أو تربطه علاقة بها. ومؤخرا أصبح من الواضح أن الطبقة "البورجوازية" عندنا باتت تحس بنفسها، بمعنى وجود ارتباطات بين عناصر هذه الطبقة ومساعي منظمة لتبادل المصالح بين أفرادها، بالإضافة للانكفاء على ذاتها، وفي هذا الإطار تدخل ظاهرة "التزاوج الذاتي" التي أصبحت شائعة بين أفراد هذه الطبقة، إذ باتوا مؤخرا يميلون إلى التزاوج فيما بينهم في انكفاء قد يكون مدروسا. ولعل ما يغيب عن الكثيرين أن هذه الطبقة لم تحصل على مكانتها من خلال الثروة المتراكمة من العمل والكد، بل بالنهب المنظم لخيرات البلد عبر السمسرة والصفقات الفاسدة مما جعل بضعة آلاف من البشر يعيشون في مساحة كيلومتر مربع واحد تقريبا (تفرغ زينة)، يتحكمون في مصير أربعة ملايين شخص على امتداد مليون و 30000 كم² وباتو يزدادون ثراء يوما بعد يوم، فيما يزداد الفقراء فقرا، أما الطبقة المتوسطة فقد تم القضاء عليها بشكل ممنهج وما ظاهرة الشيخ الرضا إلا القشة التي قصمت ظهر هذه الطبقة، حيث استولت الأقلية المتنفذة عبر سماسرتها العاملين مع الشيخ الرضا، على ممتلكات الطبقة المتوسطة مستحوذة على حصاد عقود من الكدح والجهد، وكانت ظاهرة الرضا آخر حلقة من مسلسل إفقار الطبقة المتوسطة، حتى لا تطمح يوما إلى مضايقة ساكنة الحي الشمالي من نواكشوط. .