هل يرتبط الكسل حقا بمنظومة القيم الحضارية لأية أمة؟ و هل يصطدم بالقيم السائدة في مجتمعاتها علما بأنه ليس مرتبطاً إطلاقا بوفرة المال ولا بوفرة الخدمة كما يظن البعض و أن هناك دولا فقيرة تصدرت الدول الأكثر كسلاً، حيث لا مال ولا خدمات لأنها ثقافة شعوبها لا غير؟
و في هذا السياق يجدر التأمل في ظاهرة الكسل و أثره في تطور الجماعات و البلدان و كذا الوقوف عند قراءة بعض أوجه التصنيف الذي يقسمه، بحسب دراسة قيمة أجريت عنه مؤخرا، إلى ثلاثة أنواع كالتالي:
- الكسل الذهني الذي يشير إلى تدني الرغبة في التفكير والتثاقل عن البحث والتحليل، وهذا النوع مستشرٍ و كارثي على المجتمعات، وهو الذي يوسع حجم قاعدة الهمج الرعاع في المجتمع بحسب تصنيف الخليفة علي كرم الله وجهه: «الناس ثلاثة: عالم رباني، ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع ينعقون مع كل ناعق»، حيث يجعل هذا النوع من الكسل السواد الأعظم من الناس جاهزين لقبول التصورات المتوارثة وتقبل الخرافة والاقتناع بالتفسيرات غير المنطقية، وهو يكون لديهم قابلية عالية للتأثر بالإعلام الموجّه من قبل الحكومات،
- و الكسل الجسدي، الذي تكون أسبابه فسيولوجية، كما تذكر الكتب الطبية كفقر الدم والسكري وتدني نشاط الغدة الدرقية وأمراض القلب والجهاز التنفسي وغيرها،
- و الكسل النفسي حيث فقدان الرغبة في العمل، وتدني الحماس والميل إلى الخمول والسلبية في مواجهة متطلبات الحياة. وهو الأقرب إلى مرض الاكتئاب في بعض صفاته بسبب الاحباطات المتراكمة، أو بسبب كثرة الأعباء والضغوط النفسية والتوتر الداخلي الناجم عن عدم تحقيق الطموحات الذاتية أو شعور بالغبن و الإقصاء و الظلم.
و الكسل سيكولوجياً يكون ناجما في بعض أسبابه عن الإحساس بالضعف والقصور، أي الشعور بعدم جدارة الشخصية، والعكس صحيح؛ فإن النشاط يفصح عن الإحساس بالثقة والكفاءة، ما يدفع صاحبه إلى ممارسة وظيفته بحيوية وتفاؤل؛ لأن الشخصية التي تتمتع بالصحة النفسية لا تجد لديها مجالاً للكسل. وكما قيل «الفراغ مفسدة»؛ فالإنسان السوي لا يجتر مشاكله فهو مشغولٌ عن ذلك بالعمل. بل إن بعض علماء النفس يعالجون مرضاهم بإشغالهم بـ «العمل» حتى لو كان ذهنياً أو عادياً لا قيمة اجتماعية له.
في الوقت الذي تستحدث فيه دول متطورة مصحات لعلاج العمال المصابين بمرض جديد، عضوي و نفسي أصبح حقيقة يدعى برن آوت "Burn-out" - الذي هو حالة من الإجهاد البدني و العقلي و النفسي يتسبب فيه محيط مهني مرهق على خلفية إدمان العمل و زيادة النشاط الإنتاجي بإسراف شديد - تعاني فيه دول أخرى من المتخلفة من فرط الكسل و انعدام الإنتاجية في عملية البناء و التطور و البحث عن ضمان الاكتفاء و الرفاه. حقيقتان على طرفي نقيض تؤرقان الدول و تدفعانهما إلى مراجعة سياساتها بشأن العمل و مردوديته على بنية شعوبها السيكولوجية و البدنية. و بالطبع فإن هذه الحكومات تجد نفسها في مواجهة حالتين مرتبطتين ارتباطا وثيقا بعقليات شعوبها و نظرتها إلى تقييم ذواتها من خلال الأفعال التي تثبت الوجود و تبرره. فلا حكومات العمل استطاعت رغم مراجعات كثيرة لنظام توقيت العمل و متطلبات الإنتاج من الجهد و الوقت دون إسفاف و إسراف أن تثني شعوبها عن اعتبار العمل أول أسباب وجودها و تحقيق ذواتها و طموحاتها، و لا حكومات الدول التي تعاني من التقاعس عن ما يجعلها في عجز مطلق عن تقديم الحلول اللائقة و محاربة تلك العقليات الفاسدة و في الصميم.
و أما بالنسبة للمجتمع الموريتاني الذي لا يختلف كثيرا عن المجتمعات العربية و الإفريقية التي ينتمي إليها يتحتم من موضوعية و منطلق تجرد الاعتراف بأن الكسل من أكثر الأشياء تأثيراً في حياة أفراده و سببا في تخلفه، لما يترجمه عزوفا عن العمل وتدني في الإنتاج و قلةٍ في الإنجاز و تراخي في البناء وتقاعسٍ في أداء الواجب نحو الذات والآخر و الوطن رغم قلة العدد و كثرة و وفرة الموارد و المقدرات و الخيرات بشتى الأصناف و الأنواع.
هو الشارع في العاصمة و كل المدن الكبرى كمثله دون العمق، ناطق بكل فوضوية مشهد الحياة اليومية و خمولها:
- قمامات الأوساخ النتنة مترامية في كل ركن و على كل قارعة طريق تنتظر أياما قبل أن تنقل إلى المكبات على الإطراف الملاصقة،
- حفاظات رضع مستوردة ملقاة بلا مبالاة لافتة و سذاجة صارخة في كل زاوية من الدور و المساكن و الورش و الحوانيت و وسط كل زقاق و شارع تلتقط بعضها الأغنام الضالة طعاما و تدوس بعضها الآخر عربات الحمير و عجلات السيارات الفاخرة و الأخرى الخردة، و تتقاذفها أقدام المارة في كل الإتجاهات،
- باعة أطعمة لا تخضع لأية معيارية أو رقابة صحية في كل مكان و كأن الأكل أصبح من جوع مزمن دفين هو وحده الهم الأكبر و الشغل الشاغل في كل الأوقات،
- كسل طاغي يفقأ العيون من ضعف أداء قليل الورش و عديم المصانع و من ارتماء شديد في دائرة بيع القسط و نصف الجملة و الجملة الواسعة لمستوردات البضاعة الرخيصة من المادة الغذائية القريبة نفاذ أجل الاستهلاك إلى الهاتف الخلوي الغالي و الرخيص مرورا بكل ما يستنزف العملة الصعبة و لا يصنع الوطن،
- عزوف الأحزاب وغيرها من المنظمات الناشطة في المجالات النقابية و الحقوقية و ما سواها من مختلف تنظيمات المجتمع المدني الأخرى عن ولوج الميدان "التأطيري" العملي و "الإعدادي" الفعلي لغرس روح العمل و الوطنية من خلال الخطاب البناء المشفع بالأمثلة على الأرض و الفلسفة التأصيلية لعمق مفاهيم الوطن و الوحدة و اللحمة و البناء الروحي السليم من خلال الأنشطة الملموسة،
- تشبث، لا يبرره منطق، بزي فضفاض مكلف و معيق و مهلهل في أغلب حالاته من بسطة في قماشه و صعوبة الحفاظ عليه بعيدا عن أسباب الاتساخ و الضياع فيما أنه لا يلائم مطلقا حتى أوقات الراحة من كثرة المقالب التي لا يفتأ يحدثها لأصحابها المرتخين في أجسامهم و الهامدين في تقديرهم العالي أنفسهم بنرجسية أقرب ما تكون إلى تبرير الكسل منها إلى إيمان في العمق بأحقية الموقف، و لا يعود الأمر في ذلك إلى قلة من ذكاء أو حظوة من نبوغ و سرعة استيعاب.
و أما الثراء الذي يعطي لبعض أوجه المدن الكبرى شكلا لافتا من الأبهة أحيانا - متمثلا في العمارات و المنازل الفاخرة في غياب لافت للمصانع التحويلية و الورشات المتخصصة الكبرى- فإنه يرتبط في معظمه بنهب المال العام و السطو على مقدرات البلد الوفيرة دون أي حساب للتنمية و العدالة الاجتماعية. و يشهد العمران في العاصمتين السياسية نواكشوط و الاقتصادية نواذيبو على هذا المد العمراني الفاحش للموظفين السامين و المسؤولين عن التسيير المالي في جملة الإدارة و المقاولين المنتقين و النساء المغمورات و الشبان المدللين دون سن النضج و كذا من الملامسين لخط الجمارك و الرقابة المالية و الضباط السامين و بعض المغامرين المأجورين للقيام بأحط أعمال النصب و الاحتيال في شتى الأشكال و الصور و من المنحطين السياسيين باعة الضمير و القيم بحت كل القبعات و الاقنة، بعيدا عن تكافئ الفرص الذي يشكل غيابه:
- أحد أسباب الفقر،
- و التفرقة بين النّاس في الحقوق والواجبات كأن هناك أناس لهم حقوق أكثر،
- و العنصريّة الجغرافيّة في تبيان الولايات و المناطق،
- والعنصريّة البشريّة في اختلاف الأعراق و الطبقات،
و إن لم يكن في مثل هذه السبل الملتوية للتحصيل من كسل يذكر إلا أن الثراء على هذا النحو أحد أسباب تأخر البلاد و تقليم أظافر كيان الدولة في أساسها الأول الذي هو العدل.
و قد نجد بعض شجاعة لتغيير ظاهر من حالنا البائس لو تأملنا ما كتبه أحدهم عن العرب في تعقيب على استطلاع للرأي في فن التخلف والغباء فقال: "لن تقوم لنا قائمة، طالما لا زلنا لا نعترف بأخطائنا، ونتمسك بجهلنا وكأنه الجنة، ونتمسك بغبائنا وكأنه أصل العلوم، لن تقوم لنا قائمة ونحن لا زلنا نمارس الرجولة ونحن في الحقيقة مخصيين لا حول لنا ولا قوة، ولن تقوم لنا قائمة، ونحن ندافع عن شرفنا أمام أخوتنا، وفي الخارج يداس هذا الشرف بالأحذية العتيقة، ولن تقوم لنا قائمة، ونحن نمارس التشنج والرجولة في الحوار أمام بعضنا البعض. ولن تقوم لنا قائمة، طالما هدفنا الوحيد هو ملء البطون والجيوب، وسرقة لقمة الجياع. لن تقوم لنا قائمة، ونحن نمارس النفاق في بيوت الله وخارج بيوت الله، لن تقوم لنا قائمة، ونحن نمارس التفكير العقيم و لا نمارس العمل البناء. نعم لن تقوم لنا قائمة، طالما لا زلنا نتقن فن الكسل و التخلف و الظلم و الغبن".