... ومن جديد، فعلها الرئيس محمد الشيخ الغزواني، فشد الرحال، متأبطا أثقال الوطن وأحماله ومواجعه، جاعلا وجهته الأشقاء والأصدقاء من دول الوفرة في الخليج، بعد أن اطلق برنامج الامان الاجتماعي الفوري بمكوناته فوق العشرين، وملياراته فوق الاربعين، وهو الذي ورث خزانة خاوية على عروشها، أفرغتها سلطة العشرية العجفاء من مدخراتها، على عجل، قبيل مغادرتها، تاركة الدولة رهنا لالتزامات بمئات المليارات.!
تلك شهادة الوزير الأول المهندس أسماعيل ولد بده ولد الشيخ سيديا، خلال نقاش النواب لبرنامج حكومته المعروض امام البرلمان، يومها، حيث أكد أن السلطات الجديدة عندما تسلمت مهامها، كان في الخزانة العامة للدولة ثمانية وعشرون (28) مليار اوقية فقط، فيما كانت الالتزامات المترتبة على الدولة، بحجم مائتي (200) مليار أوقية؛ وهكذا كان لا بد من دفعة جدية وقوية، لاقتصاد على حافة الإنهيار، في اتجاه محطة الانطلاق والإقلاع،
لم يخطئ الغزواني الهدف، فلطالما كانت دول أهل الخليج العربي، الوجهة المفضلة لمسؤولينا السامين، في بحثهم عن السند المالي لبرامج التنمية المريضة لدينا، بداء التعثر المزمن؛ فكان الكرم والنبل والبذل في كل مرة، سمتهم وديدنهم؛ وهكذا على خطى أوائلنا سار الرئيس الغزواني، موليا وجهته دولة الإمارات العربية المتحدة الشقيقة، مرابع وأيادي زائد الخير ورفاقه وابنائهم وأحفادهم، وبها حل أهلا، ونزل سهلا، مبجلا، مكرما، تكريما اسعد كل الموريتانيين.
الاحتفاء الإماراتي الرسمي بالرئيس الموريتاني محمد الشيخ الغزواني، لفت انتباه المراقبين وأولوية وسائل الإعلام، وبالحظوة الرسمية البالغة، والاهتمام اللافت، استكملت الزيارة معايير النجاح، بكل جدارة؛ فمن حيث الحفاوة والتشريفات، كان الاستقبال الرسمي الذي خصص للرئيس الغزواني في أبو ظبي باهرا، منقطع النظير، يتقدمه ولي عهد أبو ظبي، القائم بأعمال رئيس دولة الإمارات، محمد بن زايد، ومن حوله كبار رجال الدولة، وقطاعات الحكومة؛ وقد ميزته استعراضات عسكرية احتفالية باذخة، قلما تتاح للزائرين من القادة الكبار؛
وكانت الخطب الرسمية المتبادلة بين الزائر والمزور، محمد بن زايد ومحمد الغزواني، مؤثرة جدا، ومفعمة بالمشاعر الجياشة؛ وقد تحدث ولي العهد الظبياني بعربية دارجة سهلة الاستيعاب، تقف على السواكن، فيما اختار الغزواني الحديث بالفصحى المهذبة المتدفقة الملتزمة بالقواعد والضوابط، الخالية من الاخطاء؛ وتمت خلال جلسة تبادل الكلمات، الإشادة بتاريخ العلاقات الثنائية وحجم التعاون، وثمراته في شتى المجالات، مع التذكير بفضل الآباء المؤسسين، ومآثرهم على شعبي البلدين.
أما من حيث نتائج الزيارة، وحجم التمويلات الممنوحة للمشاريع التنموية، وهي ربع عزة في الزيارة، فإن دولة الإمارات العربية المتحدة، خصصت محفظة مالية ضخمة لتمويل المشاريع المقدمة من الرئيس الغزواني، بلغ حجمها ملياري (2)دولار، أي ما يقارب سبعمائة وخمسين (750) مليار أوقية، وهو مبلغ قيل إنه يضاعف عشرات المرات، حجم المبالغ المطلوبة لتمويل المشاريع الموريتانية المقدمة؛
الوثائق ووسائل الإعلام، والكلمات الرسمبة للمضيف وضيفه، لم تفصح عن طبيعة المحفظة المالية الضخمة التي عاد بها الرئيس الغزواني من زيارته للإمارات العربية المتحدة، مما رسم بعض نقاط الاستفهام حولها؛ وذلك من قبيل: هل هي قروص، بفائدة، او بدونها؟ وما النسبة الماوية لفائدتها إن كانت؟ وما ذا عن فترة السداد، و عن مهلة الإعفاء؟ أم أنها مجرد هبة سخية للشقيقة الفقيرة، من اختها الغنية المتخمة؟
الغموض حول الملياري دولار، أعاد إلى الذاكرة، ما تم تداوله على نطاق واسع، في تقارير محلية ودولية، قبيل نهاية العشرية السوداء، بشأن تهريب أموال موريتانية إلى دبي، وخلاصته ان ملياري دولار من الغلول، تم تهريبها بمعرفة ساكن القصر الرمادي يومئذ
، فأودعت في حساب بالعملة الصعبة بأحد مصارف دبي، قبل ان تأمر وزارة الخزانة الامريكية بتجميدها، حيث انها كانت بالدولار الامريكي؛ وبناء على ذلك، افترض البعض ان يكون محمد بن زايد قد رفع الحظر عن تلك الاموال التي خرجت من بلادنا، نهبا وغلولا، لتعود عربونا للصداقة، وتمويلا لمشاريع الخير والنماء، في عهد الرئيس الغزواني المختلف!
أسوا السيناريوهات بشأن المليارين هو ما يقدمه بعض المحللين، استنادا إلى سجل الإمارات المشهود، بشأن المحاور والتحالفات
، ومواقف هذا البلد الشقيق من الديمفراطية ومن حق الشعوب في ممارسة السلطة من خلالها، والدور الذي يلعبه على ساحات عربية دامية؛ وهذا السيناريو الأسوأ هو ان تكون اثمان الأموال الإماراتية الممنوحة لبلادنا أمنية وسياسية تنتقص من السيادة الوطنية، من قبيل تسهيل حركة عناصرها، والتمكين لها في المنافذ، من موانئ ومطارات، وإطلاق يدها في الإعلام والاتصال، مع الانخراط في محاورها وأحلافها، ومساندة مواقفها من عدد من القضايا، ومنها الموافقة على تصفية قضية فلسطين، وخطة ترمب
لو عدنا القهقرى إلى العشرية العجفاء، لكان هذا السناريو الجهنمي، اكثر ورودا واحتمالية؛ فعندما تمارس القيادة السياسية التجارة، فإنها تفضلها في الممنوعات المحظورات، ومثل هذه الصفقات الدنسة المفترضة، وهي واردة في كل الاحوال، تمثل ذروة الاتجار بالممنوع؛ اما وقد خلفنا العشرية وصفقاتها المشبوهة وراء ظهورنا، وتسلم المقود مؤتمن لا شأن له بالتجارة والمضاربة والنخاسة السياسية، فالامر-حتما-مختلف، لأن الرئيس الغزواني مختلف..
معروف أنه من البدهيات في العلاقات الدولية، ان التعاون مرغوب مطلوب، بين مختلف الدول، وخاصة بين الاشقاء والاصدقاء؛ ولا يقلل من اهميته اختلاف السياسات والتوجهات والمحاور والاحلاف، وحتى الدين والقيم الثقافية والاجتماعية؛ فتلك خصوصيات وحقوق تجب صيانتها لكل طرف، وهو يبرم عقود التعاون؛ أما عندما يسعى أحد الطرفين إلى انتقاص سيادة الآخر، او ارتهان موقفه وتوجهاته وخياراته، بإغداق المياعدات المالية، فذلك هو السحت السياسي، وكل جسم نبت من سحت، فالنار اولى به.
عموما، يعرف أن أشقاءنا الإماراتيين، الاعزاء الكرماء، كما هو معلوم غير مجهول، قد قطعوا أشواطا بعيدة، سرا وعلانية، في التطبيع مع الكيان الصهيوني وأذرعه عبر العالم، حتى إنهم باركوا خطة ترمب علنا، ودعوا إلى مباركتها؛ وهم يقتلون الآلاف في اليمن المنكوب، ويحتلون موانئه وجزره، وهم يقاتلون الليبيين الآمنين ويحرضون على قتلهم، ويمولون الانقلابات، ويساندون المستبدين والطغاة، عبر العالم، ويعتبرهم بعض العرب والمسلمين رأس حربة للشر؛ ولهم ولانصارهم وحلفائهم رأي آخر، والأمر يخصهم؛ فمثلهم يحسن التعاون معهم، على قاعدة الحق في الاختلاف؛ لا النزول على شروطهم بالائتلاف، فنحن مع حفظ الوداد والمكانة، مختلفون، اليوم، لان رئيسنا الغزواني مختلف.
أخيرا، نتفهم قلق المشفقين على نظام الرئيس محمد الغزواني، والحكومة الموريتانية، من الحضور الذي ما زال طاغيا في المشهد الوطني، لحيتان الفساد الكبيرة وديناصوراته وباروناته، التي ترتقب أموال الإمارات، وقد اتخذت وضع الهجوم عليها حين تدخل مراتعها؛ نعم نتفهم قلق المشفقين، لكننا نحسب ان أمام بقايا المفسدين اليوم، فرصة للالتحتف بإصلاحية تنظيف وطنية، تعيد تصنيعهم ضمن جيل مختلف، في وضغ مختلف، بقيادة رئيس مختلف.