يعتبر الحاج محمود باه أحد أعلام منطقة فوتا و شخصياتها العلمية التي تركت بصمة بارزة في الحياة العلمية و الثقافية بمنطقة غرب إفريقيا. ولد الحاج محمود باه سنة 1908، و هي السنة التي تعرف بالمنطقة بسنة القحط و الجفاف. و قد تربى محمود باه في بيئة إسلامية وسط أسرة دينية محافظة على الآداب و الأخلاق الإسلامية ببلدة جوويل بجنوب موريتانيا ، و قد اشتهرت المنطقة بكثرة حفظة القرآن و طلبة العلم و الثقافة العربية و تميزت بقدرتها على خلق مناج إجتماعي انصهرت فيه جميع المكونات الاجتماعية للمنطقة. ارتبط بتربية المواشي في صغره، فكان يساعد والده في تربية المواشي التي كانت قوام حياة الأسرة و قضي سبعة أعوام كاملة في رعي البقر و الغنم حتى اشتهرت الأسرة في عهده بالثروة الحيوانية. عندما وصل عمره سنة 15 غادر مدينة جوويل لطلب العلم و اشتهر بالنبوغ حيث حفظ القرآن في مدة 4 سنوات رجع إلى أهله بجوويل لكنه لم يطل المكوث فيها حيث ذهب إلى بلدة المجرية بموريتانيا لتلقي العلم و في سنة 1929 بدأ التفكير في الذهاب إلي المملكة العربية السعودية لتعلم العلم. بدأ رحلته من موريتانيا مرورا بمالي و النيجر و نيجيريا و السودان و اريتريا و اليمن، و قد اتسمت رحلته بالكثيرة من المغامرة حيث خرج بلاده على الأقدام و مر بصعاب كثيرة في بعض محطات الطريق، قبل أن ينعم الله عليه برفقة من أهل السيراليون في محطة نيجيريا، شكلوا له سندا و عضدا. لما وصل مكة المكرمة تتلمذ على الشيخ العلوي الذي كان يقصده عشرات الطلاب من الهند و باكستان و أندونيسيا و أفغانستان، فحفظ على يديه متن الألفية لابن مالك و بعض المتون الفقهية الأخرى. بعد ذلك انتقل الحاج محمود باه إلى المرحلة الإعدادية بمدرسة الفلاح، التي أمضى فيها أربعة أعوام لينتقل إلي المدرسة الصولتية الهندية اثر نجاحه المتفوق بمسابقة دخول المدرسة. أمضى الحاج محمود زهاء أربعة عشر سنة في مكة المكرمة تمكن خلالها من زيادة معارفه في مختلف العلوم الإسلامية و علوم اللغة العربية و ربط خلالها صلات وثيقة بعلماء أهل البلد و الشخصيات الدينية القادمة للحج التي كان يزورها مستفسرا عن أحوال المسلمين و عن جهود الإصلاح الديني. و في سنة 1941 قرر الحاج العودة إلي بلاده، حاملا معه زادا معرفيا ذاتيا و مكتبة ضخمة تضم نفائس الكتب، التي أهداها له شيوخه و أصدقائه، و قد تعرض أثناء عودته لمضايقة الاستعمار الفرنسي خاصة في النيجر حيث تم سجنه سبعة أشهر للاشتباه فيه و في شحنة الكتب التي يحمل معه. و يغذي مضايقات الحاج محمود باه هواجس و مخاوف الفرنسيين من الحركات الإسلامية بالمنطقة و التي كان لبعض رموزها مواقف عدائية تجاه الاستعمار الفرنسي و كانت ترفض الأدوار التي يقوم بها المستعمر من أجل طمس الهوية الإسلامية للمنطقة. لما وصل بلدته جوويل شرع في تأسيس مدارس الفلاح ، التي تعتبر اليوم أهم مؤسسة تعليمية تمكنت من إنتاج حركة إسلامية إصلاحية ساهمت في ترسيخ علوم اللغة العربية و التعاليم الإسلامية بإفريقيا، و لعبت المدارس أدوارا كبيرة في نشر العلوم الإسلامية و العربية في منطقة غرب إفريقيا و كانت مصدر إزعاج و قلق لاستعمار الفرنسي، الذي رأى فيها مشروع قوة إصلاحية تغيرية محافظة على مشروع نشر قيم الإسلام. خضعت المدارس قبل استقلال دول المنطقة عن الإدارة الفرنسية في عام 1960 لإدارة موحدة، إلا أن استقلال هذه البلدان جعل لكل مدرسة من مدارس الحركة في بلد معين نظامها الخاص بها. في عام 1974 تحول اسم المدارس إلى ” حركة الفلاح للثقافة و التربية الإسلامية في السنغال”. وفرت مدارس الفلاح بديلا إسلاميا كان يتعطش له المحافظون الذين رفضوا إرسال أبنائهم للمدارس الفرنسية ، و واكب مشروع المدارس بجهود إصلاحية أخرى لتنقية الشوائب التي علقت بالدين الإسلامي. فهو كان يعي أن ثمة بقايا من الثقافات الإفريقية الوثنية مازالت تتلبس في تصرفات و معتقدات شعوب المنطقة، فحارب بالحكمة هذه المعتقدات، مصححا للناس عقيدتهم. شكلت مدارس الفلاح شوكة في حلق المستعمر الفرنسي و ازدادت مخاوف الاستعمار من الحاج محمود باه و حركته الإصلاحية، فعمد الاستعمار إلى إغلاق فرع المدرس في مالي و حقق مع بعض مسيريها، و أستدعى الحاج نفسه للاستجواب بداكار و وجهت له تهم منها إرسال التلاميذ للدراسة بالشرق بدون إذن الحكومة الفرنسية و إقامة محاضرات بمصر و السودان تهاجم فرنسا و تتهمها بالتضييق على الثقافة العربية. توفي الحاج محمود باه سنة 1978، تاركا وراءه رصيدا دعويا و علميا لازال شعائه يضيء المنطقة، فانتشار مدارس الفلاح اليوم يعم أرجاء منطقة غرب أفريقيا و عطاء خريجيها يشكل لبنة أساسية من لبناء التراث الإسلامي بالمنطقة.
الباحث / سيدي ولد عبد المالك.