رغم مرضه وضعفه وبلوغه الثالثة والتسعين، إلا أن طلاب يحظيه ولد عبد الودود "اباه" لم يكونوا يتصورون غيابه، كانوا يعدونه من لداة الدهر التي لا تغيب، ومن ثوابت الدنيا الخالدة كالملوين والفرقدين.
وفي سنة 1358 هـ 1939 م يوم الاثنين مع دخول وقت الظهر غاب يحظيه، فأظلمت الدنيا في أعين الناس، وتداعى تلامذته تحت هول المصيبة ولوعة الغياب يندبونه، وفي كل موقف كانت شواهد الألفية التي طالما شنف "اباه" بها آذانهم حاضر.
أمام الجسد الطاهر المسجى المحمول على النعش تمثل ممو ولد عبد الحميد بشاهد اقتران خبر كاد بأن في قول محمد بن مناذر البصري يرثي عبد المجيد بن عبد الوهاب الثقفي:
إن عبد المجيد يوم توفي :: هد ركنا ما كان بالمهدود
ليت شعري وهل درى حاملوه :: ماعلى النعش من عفاف وجود؟
كادت النفس أن تفيظ عليه:: إذ غدا حشو ريطة وبرود
وحين وضع النعش استعدادا لحفر القبر تمثل اگليگم ولد محمدو ولد حبيب ولد متالي بالشاهد على دخول نون الوقاية على الحرف (لعل) ندورا، إذ الغالب حذف نون الوقاية من لعل:
فقلت أعيراني القدوم لعلني :: أخط بها قبرا لأبيض ماجد
وتوالت الشواهد من الطلبة وتوالت العبرات، ثم جاءت المراثي، كان أول ماقيل من الشعر فى رثاء العلامة يحظيه بيتين قالهما المصطفى ولد منين التندغي الانديجگراري، ارتجالا عند وضع العلامة يحظيه فى قبره:
أياديمة الرضوان والعفو أَوْبَكِ :: إلى روضة الأجداث أجداث أَوْبَكِ
وإن رُمْتِ اوبا من هنالك فاجعلى :: إلى كل من ينمىَ لِأَ أۤوْبَكَ أَوْبَكِ
ويقول المصطفى ولد منين:
مسالمة المنية لا تقينا :: وإن الموت لاقينا يقينا
فما حلم الحليم يقيه منه :: ولا التقوى بواق المتقينا
ولا ذو المال بالأموال باق::ولا الإنفاق يبقي المنفقينا
ولا الأبناء بالآباء تبقى :: ولا الآباء تبقى بالبنينا
فكم أدى أمانته أمين :: فما أبقت أمانته الأمينا
فلولا الموت ما سكبت عيون :: لفقد اباه مدمعها المصونا
عيون للشريعة داميات :: وأخرى للفتوة لن تصونا
فعلم النحو يندبه جهارا :: ومختصر الخليل غدا حزينا
وأطرقت "الخلاصة" يوم ولى:: وأنّت ثم رجّعت الحنينا
وحاولت التسلي ثم سالت..مدامعها فرجعت الأنينا
لعمرك ما فقدنا مثل حبر :: لدى "بئر الكعاب" غدا دفينا
ألا إن المعالي أيمتها :: منيته وأيمت الفنونا
فكم يوم أقام عليه جمع :: كرام قارئون ومقرئونا
ويقول اگليگم ولد محمدو:
لَيْسَ لِلْمَرْءِ مِنْ صُرُوفِ الزَّمَانِ :: إنْ أَنَاخَتْ بِبَابِهِ مِنْ أَمَانِ
هَلْ تَرَى حَيَّ آلِ عَبْدِ مَنَافٍ :: أوْ تَرَى حَيَّ آلِ عَبْدِ مَدَانِ
فَلَنَا أُسْوَةٌ بِمَنْ قَبْلَنَا فيـمَا رَمَتْنَا بِهِ يَدُ الْحَدَثَانِ
قَدْ رَمَتْنَا فَأَوْرَثَتْنَا شُجُونًا :: لِلْحوَايَا مَا تَنْقَضِي لِأَوَانِ
قَدْ رَمَتْنَا بِفَقْدِ حَبْرٍ هُمَامٍ :: مَا لَهُ فِي عُلُومِهِ مِنْ مُدَانِ
حَوْلَ ذَاتِ الْكِعَابِ أَمْسَى مُقِيمًا :: أَيُّ فَضْلٍ ثَوَى بذَاكَ المَكان
قد ثَوَى ثَمَّ رَوْضُ صعْبِ القَوَافِي :: وثَوَى ثَمَّ روض صعب المعاني
وثَوَى ثَمَّ ما يسر المآخي :: وثَوَى ثَمَّ ما يسوء المعانـ"د"
أيها الشامتون مهلا رويدا :: كلكم من ورود المنية دان
ولَئِنْ كان سَارَ عنّا لقَدْ أَبْـقى كِرامًا هُمُ بُدُورُ الزمَان
فَهُمُ إِثْمُدٌ لِعَيْنِ الْمٌصًافِي :: وَقَذًى فِي جُفُونِ ذِي الْأَضْغَانِ
ويقول ممو ولد عبد الحميد الجكني:
أحقا أن ابّاه المفدى :: علت كعبا به بير الكعاب
هنالك غادروا مجدا أثيلا :: وبذلا دونه سح السحاب
وعلما بالفروع إلى أصول :: وعلما بالحديث وبالكتاب
وعلما باختلاف القوم فيها :: وعلما بالمصوّب والصواب
ويكشف عن مخدرة المعاني :: فتبدو وهي واضعة النقاب
ويقول أبومدين ولد أحمدو ولد اسليمان:
وقد بان باب العلم عنا وفصله::وكافله بين الورى وكفيله
تولى أخو العلم الغزير وجده :: ووالده المدني له وسليله
وما هو إلا العلم والعلم وصفه :: وما العلم إلا ما تضمن قيله
ويقول محمدن ولد حمديت التندغي اليحيوي:
شجيت وما شجيت على الشباب::وقد ولى، ولا دمن الرباب
فما ذكر المغاني والغواني:: شجاني لا، ولا وخد الركاب
ولكني شجيت لفقد قطب :: بمدفنه علت ذات الكعاب
ويقول محمد عالي بن نعمه المجلسي:
بئر الكعاب علوت اليوم فافتخري :: إذ حل غورك قطب الدرس يحظيه
لسان حالك فيه الدهر منشدة :: ومنشد الشيء قدما مثل منشيه
"أهلا بمقدمه الميمون طالعه :: واليمن والبشر والترحيب لاقيه"
والبيت الأخير من قصيدة للشيخ باب ولد الشيخ سيديا قالها ترحيبا بالعلامة يحظيه لدى نزوله قرب بوتلميت.
وذات زيارة لضريح يحظيه لدى "بدغوغَ" بئر الكعاب رأى اگليگم ضريح شيخة وعليه تِهلي "عريش" منفرد وكان يعهده حيا وعليه مئة عريش من الطلبه فأنشأ
أقول لدن دخلت عريش شيخي:: ولا تبقى صروفُ الدهر حَيَّا
لئن بُنيَ العريشُ عليك ميتا :: لقد بني العريشُ عليك حيّا
ويقول المصطفى ولد الشيخ أحمدو ولد الشيخ محمدو ولد حبيب الرحمن:
بينما نحن قد انتهينا من أذان المغرب إذ جاءنا نبأ وفاة يحظيه فقال الشيخ أحمدو للمتقدم للإمامة وقد همّ بالإقامة: انتظرني حتى أؤرخ لهذه الداهية العامة فأفملى علينا مرتجلا:
قبيل "شنطس" ببا وشهر :: في يوم الاثنين بوقت الظهر
"اباه" قد سافر نحو القبر :: لهفي على قاري الوفود المقري
أسكنه الله جنانا تجري :: تحتها الأنهار مزاد الأجر
وألبس الله بدور العصر :: أبناءه من سابغات النصر
وبعد فراغه من إملاء الأبيات أمر بإقامة الصلاة.
ويقول العلامة المؤرخ المختار ولد المحبوبي في حوادث عام 1358 هجرية:
وفيه موت العالم النبيه :: بدر الزمان شمسه "يحظيه"
من فاز بالحفظ وبالتحصيل:: وجودة التلقين والتوصيل
والآخذون عنه لا يحصونا:: ومن كرام الناس مصطفونا
كان إمام الأولياء الأكبرا :: لكن بتعليم الورى تسترا
وبعد وفاة يحظه بنحو عام نظم تلميذه النابه ممو ولد عبد الحميد الجكني حياته، يقول العلامة التاه ولد يحظيه : أتانا بها عقب نظمها بيسير فضيلة الشيخ بداه بن البوصيري وقد تلقاها حفظا على ناظمها ممو وقد مر به في بعض مهماته، فأملاها علينا عند بئر يسمى "بادريسيه" من لبيرات وذلك بعد وفاة يحظيه بسنة ونصف.
ومن منظومة ممو هذه:
فشيخنا "يحظيه من جكانا :: والأم والوطن من گنانا
عبد الودود أبه السَّريا :: دعوا، وأمه دعوها "دياّ"
وكان في السخاء لا يبارى :: وكان في الذكاء لا يجارى
كنا نعده من السَّماح :: أجود بالخير من الرياح
من اللباس يلبس اللبيسا :: وغالبا لا يلبس النفيسا
ويكثر الجلوس في التراب :: تواضعا للملك الوهاب
كم فتح الله على بليد :: لديه فتحا ظاهر المزيد
وقد تصدر عليه جَمّ :: مثل أبي وابن فتى وممو
وكمحمد المسمى سالما ::وفي العلوم عدم المزاحما
وكالمحمدين قبل عالي :: معا وكل في العلوم عال
والتاه نجل شيخنا المفدى وأحمد الكمليلي نجل كدا
وكابن عبد الله وابن والد :: وكبني المحبوبِ وابن الزائد
وابن البشير وأبي المعالي :: وكرماء من بني متالي
وابن أبي مدين وأحمد جكنا :: من بالعلوم والعلوّ يعنى
ونجل ابوه العظيم الشان :: والحسنان من بني جكان
محمد نجل محمد النابغة :: بحِكمٍ عنه تولى بالغة
وقد تولى مثله بدّينُ :: عنه بما الله به يدين
وغيرهم من من يضيق الصك :: عنه ويعيى بالعديد الفك
وشيخنا في فقه المشهور :: متصل السند بالأجهوري
كما أتى في نحوه المصون :: متصل السند بالأشموني
والشاذلية بها كفيل :: له ابن متالي الرضى النبيل
أرسى على ضريحه النسيم :: ولا عداه الأنس والنعيم
والحمد لله على ما من بـهْ :: علىَّ من صحبة ذا الشيخ النبهْ
قال القاضي عبد الله السالم بن يحظيه: لم أستسغ هذه العبارة" أرسى على ضريحه النسيم" وحين زارنا ممو وكان ذلك قبل وفاته بأيام سألته عن هذه العبارة وهل تسوغ وما أصلها؟ فأجاب: نعم، وأخذتها من قول الشاعر:
أرسى النسيم بواديكم ولا برحت :: حوامل المزن في أجداثكم تضع
ولا يزال جنين النبت ترضعه :: على قبوركم الهتانة الهمع
كامل الود