..... وكاتبت الشيخ ماء العينين الشنقيطي الحوضي من مراكش وكتبت له قصيدة مدحته بها ومنها ما كان يعجب بعض تلامذته:
وحباك بالنصر الإله وبالهدى :: وكفى بربك هاديا ونصيرا
ثم إنه قدم مراكش وأنا فيها فاجتمعت به وأنشدته مادحا:
زارتهُ مخلافُ وعدِ الحب مخلابُه :: والفجرُ منصدع في الأفق كذابُه
واعترض علي عبد الله بن الأديب اليعقوبي من تلامذة الشيخ، بأن الشعراء لا يستعملون الالتفات في المطالع إلا بضمير الخطاب نحو:
طحا بك قلب في الحسان طروب ..
فقلت له لعل ذلك في الأغلب، وأما كونه لايكون إلا كذلك فلا أسلمه إلا بنص من كلام أهل الفن، ومع أني الآن لا أستحضر في شعر نصحاء المتقدمين إلا مثل الذي ذكرت، ولكنني أعرف استعماله بضمير الغيبة في شعر أناس من أهل الصنعة والخبرة ينشدونه وينشد بحضرتهم ولم يعترضوا عليه بشيء، من ذلك قول بعض شعراء قبيلتنا المتقدمين وأظنه غالي البعمري في لامية له مشهورة أولها:
ما باله كلما لامته عذاله :: يزيد في طفحات الجهل ما باله
ومنه قول ابن محمدي العلوي في قصيدة له مشهورة أولها:
ردته بعد تمام الحلم والنّبه:: إحدى الجواري رهينَ الشوق والوله
إن امرؤا سفهته بعد كبرته :: بنات عشر لمعذور على السفه
فقنع مني بذلك.
واجتمعت في مراكش بأناس من أفاضل تلامذة الشيخ ماء العينين فيهم أحمد الشمس القاطن الآن بالمدينة المنورة ومنهم الهيبة بن الشيخ ماء العينين وحصل لي معه مجلس طويل يسألني عن قبيلتي ويستنشدني أشعارهم، وأنشدته من شعر محمد بن حنبل، وقال لي من أشعر عندكم، الأحول أم ابن حنبل؟
فقلت له إن محمد بن حنبل نقل عن شيخه الشيخ سيديا أنه فضّل شعره على شعر الأحول في محفل ونظم ذلك بقوله:
لا أبالي بمن يذم قريضي :: من ذكي الحجاء أومن عريضي
وعلى الأحول البليغ المجلى :: في الملا فضل الكمال قريضي
والهيبة هو الذي بايعه أهل مراكش وما حولها سلطانا لهم منذ سبع سنين أو نحوها وتتبعه أمم كثيرة وتجري بينه وبين فرنسا وشاة نسأل الله أن يقيه من شرهم.
وكنت أولا قاصدا مدينة فاس لأنها مدينة العلم في المغرب الأقصى ثم بدا لي أن أحج فأصابني الجدري في رمضان وأنا في رباط الفتح وتأخر برئي لبرودة الوقت والقطر فعاقني ذلك عن الحج تلك السنة.
ثم سافرت من المغرب إلى مصر فدخلتها في ذي الحجة سنة 1318 هـ، وفيها الشيخ محمد محمود التركزي الشنقيطي اللغوي المشهور وكان معي رجلان شنقيطيان، وليس منا من له معرفة بالشيخ، فعلم بنا أول يوم فجاء إلى الأزهر يسأل عنا فاجتمعنا به وسألنا من نحن فانتسبنا له فأخذنا وذهب بنا إلى الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية وكان صديقا له وهو في مؤخر الجامع فعرفنا به فسلم عليه ثم ذهب بنا إلى بيته وجلسنا معه مدة حتى العشاء فتعشينا معه ورجعنا إلى الأزهر.
ولم يزل يتعهدنا بالاستدعاء إلى بيته للطعام ويرسل معنا من يرشدنا إلى ما نريد من حمام وغيره وأكرمنا غاية الإكرام، وحين جئته كنت مقلدا محضا وكان هو يرى العمل بالحديث فحانت يوما صلاة ونحن في بيته، فصلى بنا صلاة مخالفة لصلاة المالكية في بعض الهيئات وكنت سمعت أن أكثر علماء مصر يتركون مذاهبهم لمذهب أبي حنيفة لأجل التوظف.
فلما سلمنا قلت له كأنك تركت مذهبك لمذهب أبي حنيفة أو للشافعي؟
فقال كيف عرفت ذلك؟
قلت لأنك فعلت كذا وكذا، قال علي أن أفعل ما ثبت عندي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقلت له إني سألت بعض علمائنا عما إذا وجدت حديثا مخالفا لما أعرفه من أقوال الفقهاء وكيف أصنع وأنه قال لي: اعمل بقول الفقهاء.
فقال: هذا لايقوله عالم لا يقوله إلا جاهل فكبرت كلمته في نفسي لما وقر في نفسي من تعظيم ذلك الرجل الذي قال لي ذلك.
ثم قال لي أتعجب من المالكية في تركهم وضع اليمنى على اليسرى في الصلاة مع أن أصحاب مالك رووه عنه، قلت فمن رواه عنه؟،
قال كل من روى الموطأ رواه عنه، قال وأخد برواية ابن القاسم وحده في السدل، قلت ذلك لأنه أفضلهم.
قال ليس بأفضلهم، محمد بن إدريس يعني الشافعي أفضل منه، قلت له ذلك مجتهد قال وإن كان.
وهذا الشيخ حاد المزاج حار الطبع كثير الاعتراض على العلماء، إلا أنه غزير المادة يغرف من جم، له غرائب يشذ بها عن الجمهور وأشهرها صرف عمر.
ورد عليه صاحبنا الشيخ أحمد بن الأمين العلوي الشنقيطي وصنف في ذلك رسالتين صغيرة وكبيرة وأجاد فيهما.
ومما سمعته يقول في هذه المسألة: غلط فيها سيبويه إمام البصريين والكسائي إمام الكوفيين وتبعهما أناس كثيرون.
فقلت له وهل تنبه أحد العلماء لهذا الغلط؟
فقال نعم قلت من هو؟
قال محمد محمود يعني نفسه.
وكان يحفظ من أغلاط العلماء شيئا كثيرا وددت أني كنت قيدت بعضه لأن الكثير منه مفيد، قال لي ثاني يوم:
ابن عمك عبد الله ول أحمد دام ذهب يُغلط العلماء فغلط هو.
قلت في أي شيء؟
قال في قوله:
هي العرب تأتي أوجها في كلامها :: يفوت مدى ميدانها كل قاصر
هي العرب تأتي من وجوه كثيرة :: يتيه بها بعض النحاة الأكابر
لذلك أمسى بعض أشياخ معشري :: يقولبون ماذا لا ترى في الأواخر
وألف لماذا في النوادر كررت :: وهل تجهل الأشياخ ما في النوادر
فقلت ما وجه الغلط ؟
قال في تسمية الكتاب النوادر، و إنما هو الأمالي قلت بلغني أنه يعني نوادر محمد بن أبي زيد فقال لي هذا غير صحيح لأن نوادر أبي زيد لاوجود لها في القبلة والقصة موجودة في أمالي أبي علي القالي وأهل القبلة يسمونها النوادر وهو غلط منهم وتبعهم هو على ذلك، وما كان ينبغي له لأن مثله ينبغي له التحرز من الغلط مطلقا ولاسيما في معرض تغليط العلماء.
فقلت له عدم وجود نوادر أبي زيد في القبلة غير معلوم وكون القصة في الأمالي لا ينافي وجودها في النوادر ولم يرتض كلامي.
قال لي هل تحفظ لوحيّة ابن عمك شاعر الدنيا محمد بن حنبل قلت نعم قال اسمعنيها فأنشدته إياها فلما بلغت قوله:
في عقود النضار والدر منها :: جيد جيداء من ظباء رماح
قال أعد علي هذا البيت فأعدته؟
فقال ما تقول فيه قلت وماذا عسى أن أقول فيه!،
قال فيه غلط
قلت وماهو؟
قال نسبة الظباء إلى رماح، ورماح إنما تنسب إليه المها قال الشاعر:
وفي الأظعان شبه مها رماح :: عَلَتْهُ الشمس فادرع الضلالا
وأما الظباء فإنها تنسب إلى وجرة، فقلت له نسبة الظباء إلى وجرة لاتمنع نسبة المها إليها.
فقال هذا ليس بشيء فإن العرب هكذا قالت ولا يترك شيء ثابت النقل لتجويز العقل.
فلحقتني عصبية من كثرة اعتراضه على شعرائنا وخالطني غضب وأحمد الله أني ملكت نفسي فلم يظهر علي شيء.
قال لي يوما تحفظ لامية ابن عمك المختار بن المحمود قلت لا، تبسم وقال ما مضمونه لو شهدت عندي أوقال عند سوار لما قبلت شهادتك.
وقال هذا شاعر من أشعر شعراء قبيلتك والقصيدة من أشهر شعره، ولاتحفظها وذكر قصة سوار مع الدارمي، ثم شرع أحد صاحبيّ يذكر طرفا من القصيدة ويغلط وأنا أرد عليه ثم أنشدت أبياتا من أولها:
أبانتهم أبينت من جمال :: وحاد بها الحداة إلى الضلال
جمال غادرت هضب الحبارى:: قبيل الصبح مسلوب الجمال
سلكن السيل لا متريثات::حذارا من معالجة الرمال
وقد جعلت تدير السيل عنها::يمينا والنفود إلى الشمال
وكان لهن ربع الرعي أمّا::فأنجاد المُعَكّنَة العوالي
فجعل يلحظني كالمتعجب وقال قلت إنك لاتعرفها!
فقلت إنما سألتني هل أحفظها وأنا لا أحفظ منها إلا أبياتا قليلة وهي طويلة ولو سألتني هل أعرفها لقلت لك نعم، فسكت.
قال لي مرة هل تقرض الشعر فقلت ربما فعلت ذلك.
قال أسمعني فأنشدته قصيدة، وأنشدته أيضا أول الرائية التي قلت في الشيخ ماء العينين:
قد حمل الطيف الملم هجيرا :: من ليس للحور الكواعب زيرا
من فرط حب فتية بالعُقل ما :: يعيى به لو حملته ثبيرا
فقال لي أين فاعل يعيى قلت له ثبير فقال كيف ذلك وهو منصوب قلت له هو منصوب بجملته على أنه مفعول كان، لأنه متنازع فيه، فقال هذا حسن.
ثم ذكر بيتا لمحمذن بن السالم ماكنت سمعت به قبل ذلك وزعم أن فيه غلطا فلم أبحث معه فيه وإنما قلت إني لا أعرفه، وسألني عن أشياء كثيرة من أحوال بلادنا فأفدته عن بعضها وبعضها لم أفده عنه.
ولما أردنا السفر من مصر أتاني برسائل وقصائد قالها في أهل المدينة في أمور جرت بينه وبينهم.
فقلت اعفني من هذا فإني لا أحب أن أقدم على أهل المدينة بهجائهم.
ثم إنه أخذ لنا مكتوبا من حكومة القاهرة إلى محافظ السويس ليركبنا إلى جدة ثم توجهنا إلى مكة فقدمناها محرمين بالعمرة في أواخر محرم 1319 هـ.
كامل الود .
نقلا عن صفحة العملاق / إكس ولد إكس إكرك .