كنتُ أقرأ القرآن في خيمة جدي رحمة الله عليه، عند قرية مسعود، التي انقلبت عنها قرية النعيم الحالية بَارَكَهَا ربي، وكان في القرية معلم قرآن عنيف شديد السطوة، مسرف في ضرب التلاميذ، نشأت من ذلك آثار بدنية لا تزال ترافق بعضهم، وكان تلامذته يسمون يوم الثلاثاء يومَ القيامة، لأنه في مسائه يكون "أتْزَارِيگْ" ومن سقط عُذِّبَ..
حضرتُ ليلة أربعاء إليه أنتظر انتهاء صديقي، وجلست منه على مسافة، فلما انتهى تلامذته من "أدْزَارِيگْ"، ناداني بعنف، فقال بعض التلاميذ: "ذَاكْ مَا يَكْرَ أمْعَانَ" فتجاهل ذلك، وأصر على أن أقف، وأُزْرَگ، مع تعنيف لفظي..
وقفت موقف الحساب، فقال بشدة: "مَشَّ وعباد الرحمن إِلَ نهاية الحزب"، وفقني الله في الحفظ، لكن ذلك لم ينجني، فقال: "هذَ الْسانُ مَاهُ مَارگْ دِيرُوهْ بين ذُوكْ لعْمَدْ"..
في المدرسة كان السوطُ من عدة كل معلم: "كُرْوَالًا أو رَكُّورًا مُسَيَّرًا"، فكان من معلمينا من يُضْجِعُ التلميذ ضجعة الذبيح، ويضع بياض قدمه على صفحة عنقه، ويقبل بالسوط على بقية جسده (الخليل)، ومنهم من يضع رأس التلميذ بين فخذيه واقفا، ويقبل بالسوط على بقيته (تام)، ومنهم من يضرب بالمسطرة والخشبة على الأيدي مبسوطة أحيانا، وعلى الأظافر والأيدي مَقْبُوضَة أحيانا أخرى (خديجة)، ومنهم من يغرس أظافره في الأذن حتى تنخرم (عبد القادر - عيشان)، ومنهم من يضرب والتلميذ محمول من أربعة من كبار زملائه (وضعية "أبَّارْ 4") المخيفة..
عوقبنا بنزع السراويل أمام الجميع، وبالإنبطاح على الأرض باردة وحارة، وبالوقوف على الركب، وبالإجبار على مضغ الأوراق بعد تطليس السبورة بها، وبألوان أخرى يضيق المقام عن ذكرها..
لازال في عيني مشهد انقضاض معلمنا يوما على صديقي إبراهيم ولد زيد يضربه بعنف، وظهره إليه غافلا منهمكا في تطليس السبورة، لأنه طلسها أفقيا، وليس عموديا كما يحلو للگرَّايْ..
كان الترياق الذي يعالج به الأهل آثار الضرب على أجسادنا، في كل مرة، هو إنشادهم على آذاننا عجز البيت الشهير: الضرب يفنى ويبقى العلم والأدب..
في هذا الزمان أصبحت جلود الأطفال بحكم القانون مرةً، ولا شك يجب التقيد بتلك المقتضيات، ولها حكم تربوية رائجة، لكن الأخطاء في ذلك، والإلمام بالتقاليد فيه يجب أن يقدر بقدره، ويُتْرَكَ الأمر بين تلميذ وگرَّايٍ فقط، وإن بولغ فيه عرض على القانون، والقضاء..
مع احترام القانون، فإنه في ثقافة مجتمعنا أن شيئا من العنف نافع في التلقي والتأديب، وبعض السلف يستدل عليه بفعل جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم، عند أول الوحي، كما في الحديث: "فغطني حتى بلغ الجهدَ مني"، وبما في الحديث: "..واضربوهم عليها لعشر"..
مرة، كنت في رحلة جوية من الدار البيضاء إلى نواكشوط، وحصل أن قامت سيدة بضرب طفل يرافقها تبين أنه حفيدها وكانت تخاطبه وهي تضربه: "أبْرُودْ أجَّلْ أُفَ هذِ الطَّايْرَ وَاعْدَ موريتانْ آمْرِيكْ أبْگاتْ أبْعِيدْ أُذَاكْ أدُّورْ أتْشُوفُ"..
ولا تنسوا أنه ليس منكم من لم يضربه معلم القرآن، ومعلم المدرسة، ولم يزد الأهل - في الغالب الأعم - على مسح دموعه، ودهن جروحه بتمثل:
لا تأسفنَّ على الصبيان إن ضربوا -- فالضربُ يفنى ويبقى العلمُ والأدب
فالضربُ ينفعهم، والعلم يرفعهم -- لولا الإخافة ما خطوا، ولا كتبوا/..
نقلا عن صفحة القاضى المحترم / أحمد المصطفى .