لقد أثارت مسألة استقلال الذمة المالية للمرأة نقاشا كبيرا تمَّ حسمه شرعا وقانونا باعطائها حق العمل خارج البيت في حدود ما تسمح به الشريعة الإسلامية [المادة:57 ق أ ش]، وحق التصرف الحر دون اعتراض، او رقابة في مالها الخاص إن كان التصرُّف بعوض إجماعا، وبغير عوض في حدود الثلث[المادة:58 ق أ ش]، و رغم أن التقييد بالثلث
في مجال التبرعات محل نقاش قديم بين المدارس الفقهية الإسلامية خالف فيه المالكية واحمد في احدى روايتيه ما ذهب اليه الجمهور[الاحناف والشافعية والحنابلة] من إطلاق وهو الأعدل، والأقوم، إذ اشترطوا لصحة التبرع فيما زاد على الثلث امضاء الزوج له وهو ما افاض فيه الشُّراح عند قول خليل: في الحَجْر" وعلى الزوجة لزوجها ولو عبدا في تبرع زاد على ثلثها، ...، وله ردُّ الجميع إن تبرعت بزائدٍ وليس لها بعد الثلث تبرُّعٌ إلا أن يبعُدَ"، وقوله في الهبة:" وصَحَّت في كل مملوك ينقل ممن له تبرع بها " ، وجلي من مُحَشِّيهِ الدسوقي أن "قوله [بها] ليس اعتباطا لانه يتبادر الى الذهن لو لم يقل بها خروج المريض والزوجة اذ المتبادر من قوله ممن له التبرع أي دائما و المريض والزوجة ليس لهما التبرع دائما [عند المالكية] فاتى بقوله بها لادخالهما.." وهو اتجاه مستساغ عقلا اذا ما فُهم في إطار الشَّراكة، وحسن المعاشرة على سبيل الاستحباب والنَّدْب، ومؤسَّسٌ نقلا بما في سنن أبي داود والنسائي من رواية عمرو بن شعيب عن ابيه عن جده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يجوز لامرأة أمرٌ في مالها إذا ملك زوجها عصمتها"، وقوله"لا يجوز لامرة عطية الا باذن زوجها" الذي أخرجه الخمسة إلا الترمذي، وهاتين الروايتين محل نقد رواية و دراية مبسوط في كتب التخريج، و حملهما الجمهور على الأدب وحسن العشرة و الاستحباب والنَّدْب فقط؛ بل قال السَّندي في شرح سنن النسائي: "نقل عن الشافعي أن الحديث ليس بثابت ، قال و كيف نقول به والقرآن يدل على خلافه ثم السنة ثم الأثر ثم المعقول" يعني قوله تعالى:[ .. فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً فكلوه هنيئاً مريئا]، وقوله) فأباح الله للزوج ما طابت له به نفس امرأته.
لقد حرص المشرع الوطني على عدم تكدير حق تصرف المرأة المطلق الحُرِّ في مالها بالتعبير بمصطلح الرقابة بدل الامضاء و الإذن حين تتبرع بما فوق ثلث مالها فجاءت الفقرة الثانية من المادة 58 الآنفة صريحة [ وليس للزوج أن يراقب على تصرفاتها إلا إذا تبرعت بما زاد على ثلث مالها] ففي اطلاق حق الرَّقابة Un droit de regard -[ كما في النص الفرنسي التي تفارق قانونا ترجمة الرَّقابة: CENSUREأو CONTRÔLE]- ميْلٌ الى قول الجمهور تخفيفا من وطأة المشتهر في المذهب المالكي (الاذن أو الإمضاء) حتى يتناغم مع المقتضيات الدولية لحقوق الانسان التي تفرض المساواة بين الرجل والمرأة في الحقوق، وتعطي لها ذمة مالية مستقلة عن زوجها.
إن قضية العلاقة المالية بين الرجل المرأة سواء كان مالها مستقلا عنه، أو متحصِّلا من عمل مستقلٍّ عنه، اومكتسب بموجب اتفاق بينهما لا تثير كبير إشكال بالنظر الى أن غالبية التشريعات اليوم تتبنى مبدأ حرية التصرف، واستقلال الذمة المالية بالنسبة للزوجة.
بيد أن مسألة حصول الزوجة على نصيبها من مجموع الثروة التي ساهمت في تكوينها وتنميتها خلال تلك الزوجية ، مقابل ما بذلت من جهد مُضْنٍ إلى جانب زوجها من حيث عملها في ماله و في منزله ، ولو كان الأمر مقتصرا على العمل الرُّوتيني اليومي داخل بيت الزوجية الذي يسهم في خلق الظرف الملائم لشحْذ همَّة الزوج ودفعه لتحقيق النجاح تلو النجاح واكتساب المهارات التي بها بنى ثروة، تبقى مسألة تحتاج الى حسْمٍ، وصَوْنٍ إن تمَّ تجاوز التعامل بالمعروف التي يؤسس له القرآن "ولُهن مثلُ الذي عليهنّ بالمعروف"، امجسِّد لتبادل الحقوق والواجبات، خصوصا في ظل تراجع القيم الإنسانية، وتفاقم قوة سلطان المادة اليوم.
هذا الحق الذي بموجبه تحصل المرأة على مقابل ما بذلت من جهد خلال تلك المسيرة يُطـْلِق عليه الفقه حق السِّعاية و الكدِّ اللذين يعنيان في مدلولهما اللغوي العمل والكسب و التصرف بمشفة وفي مدلولهما الفقهي العام:" استحقاق كل شخص مهما كان مقابل كدِّه واجتهاده جزاءَ عمله" وليس هذا محل استشكال اذ لا مُشاحة فيه فقها وقانونا وانما المَطْـرُوق هنا مدلولهما الفقهي الخاص الذي يعني: "الوضعية التي تخوِّل للمرأة الحق في أخذ جزء من الثروة التي اكتسبت أثناء الحياة الزوجية مقابل المجهود الذي بذلته أو ساهمت به في تكوين تلك الثروة "، سواء كانت في عصمة أو مطلقة أو متوفى عنها.
ولقد أحسن الفقه حين سمَّاه حقا لأن الحق سلطة يقررها القانون لشخص معين بالنسبة لفعل معين فأمكن أن يكون حق السعاية و الكد الحق الذي يقرره [العرف، العادة، الاتفاق] كمصدر من مصادر القانون لفائدة السَّاعي يُخوَّل بموجبه المطالبة باستحقاق جزء من المستفاد الناتج عن مساهمته في تنمية الثروة الاسرية، إن لم يكن منصوصا عليه قانونا.
و أمام عدم التنصيص على هذا الحق في قانوننا الوطني يتحتم الرجوع الى الفقه الاسلامي لتأصيله خصوصا الى اجتهادات علماء المالكية المغاربة.
و من المفارقة الطريفة أن يكون الفقه المالكي سباقا إلى تأصيل هذه الحق رغم موقفه من مسألة حرية التصرف المالي للمرأة، وتشتد المفارقة عندما نعلم أن من اسَّسَ له، وقضى به هو احد فقهاء وقضاة القرن 10هـ \16م، وهو القرن الذي اشتد فيه الجمود المذهبي والركود الفقهي الذي يصوره لنا التنبكتي في "النيل" بما نقل عن ناصر الدين اللقاني:أنه حيث عورض كلام خليل بكلام غيره، كان يقول: "نحن أناس خليليون، إن ضل ضللنا"، مبالغة في الحرص على متابعته وتقليده، ومن رحم هذا الفقه إنبري لنا الفقيه: القاضي أبو العباس أحمد بن الحسن بن يوسف الشهير بابن عرضون[950-1012هـ/1603م.] الذي قاد عملية مماثلة لما عرف فيما بعد ُ في قطرنا بالتخريج الفقهي أي تطويع الفقه مع مقتضيات العرف والعادة والمصلحة دون المساس باصول المذهب ولو ادى به ذلك الى الاخذ بالشاذ و غير المشتهر، اللذين اعتبر الاحذ بهما فعلا شنيعا يؤدي الى عدم قبول الفتوى ونقض الاحكام وقتها:يقول الفاسيُّ:حُكْم قُضَاة الوقت بالشُّذُوذِ \ يُنْقَضُ لا يَتِمُّ بالنُّفُوذِ؛ بل هذا ابن عرفة يقول: "إنما يعتبر من أحكام قضاة العصر ما لا يخالف المشهور"،
وتبعه في الامر البُرْزُلِيُّ، والقرافيُّ، وابن فرحون، و ابن هلال ملخصا هذا الاخير المشهد بقولته المشهورة:" الحكم بغير المشهور لا يجوز بل هو فسق وزندقة".
لقد أدهش ابن عرضون علماء وقته، بفتواه باعطاء المرأة قسمةً مساوية للرجل في نتاج سعايتها وكدِّها معه خلال الحياة الزوجية معتمدا في ذلك على نصوص شرعية واضحة منها: قوله تعالى "لِتُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَىٰ" ، وقوله:" وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى"، و منها قضاء عمر بن الخطاب، في قضية عمرو بن الحارث وزوجته حبيبه بنت زُرَيْق حيث كان عمرو قصَّارا وزوجته ترقِّم الأثواب حتى اكتسبا مالا كثيرا فمات عمرو وترك الأموال فاخذ ورثته مفاتيح المخازن والأجنة واقتسموا المال ثم قامت عليهم زوجته حبيبه وادعت عمل يديها وسعايتها فترافعت مع الورثة لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقضى بينهما بشركة المال نصفين فأخذت حبيبه النصف بالشركة والربع من نصيب الزوج بالميراث لأنه لم يترك الأولاد واخذ الورثة الباقي".
لقد تعززت هذه الفُتْيَا بالعرف المنتشر المعمول به آنذاك في بلاد المغرب خصوصا في مناطق سُوس والجبل التي عرف فيها هذا الحق بـ:"تَمَازُّولِتْ بمعنى الجِرَاية، والسعاية" و التي اخذت بهذه الفتوى وعمل بها علماؤها جيلا بعد جيل، وان ادى بهم العمل زمنًا الى حصرها على المرأة البدوية دون الحضرية وهو حَصْر تخطَّاه الاجتهاد القضائي فيما بعد بالتسوية بينهما قال الفاسي: وخدمة النساء في البوادي\ للزوج بالدَّرَّاس والحصاد\ قال ابن عرصون لهن قسمهْ\على التَّساوي بحساب الخدمهْ\ لكنَّ أهل فاسٍ فيها خالفوا\ قالوا في ذلك عرفٌ يعرفُ.
نعم لقد رأى بعض الفقهاء قديما أن الزوجة في البادية تشارك زوجها على قدْر سعايتها، ونساء الحاضرة خلاف ذلك لأنهن للفراش؛و لكونهنَّ لا اثر لهنَّ في السِّعاية وتنمية اموال الاسرة ، الا ان الواقع اليوم وليس زمن اولئك الفقهاء يوجب تغيير ها الرأي لتبدُّل مسوِّغه، نظرا لما تقوم به المرأة اليوم عموما من اعمال وصيانة وإنماء ، ولندرة التَّبدِّي امام هذا السيل الجارف للعولمة، والرغبة الجامحة للدولة الحديثة في اشراك المرأة على قَدم المساواة مع الرجل تنفيذا للالتزامات الدولية المكرسة في الاتفاقيات الدولية لحقوق الانسان ولا سيما المواد:10؛11؛12 من الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة CEDAW وهو ما أدَّى الى القول بشمول هذا الحق للمرأة الحضرية.
إن مسألة التنصيص على هذا الحق في التشريع الوطني اليوم، باتت ضرورية كما ان مسايرة الاجتهاد القضائي مسألة هي الاخرى تسهم في تكريس انصاف المرأة، و هو ما جعل الاجتهاد القضائي المغربي يذهب الى اعتماده في حق كل مرأة مطلقا يقول الأستاذ عبد السلام حسن رحو، في معرض تعليقه على قرار قضائي يقضي بحصر نطاق تطبيق مقتضيات السعاية على نساء البادية العاملات:"إن تمديد هذا الإجتهاد إلى المرأة الحضرية أصبح أمرا ضروريا في الوقت الحاضر إذا ما توفرت وسائل الإثبات المتطلبة شرعا وقانونا.
لقد كُرس هذا الاتجاه في القرارات الاجتهادية لمحكمة النقض التي ذهبت إلى ان القول المستند على أن حقَّ الكد والسعاية يخص الزوجة العاملة في البوادي و لا ينطبق على عمل الزوجة القاطنة بالمدينة رغم كدِّها وسعايتها في تكوين الثروة مع زوجها هو حكم مخالف لمقاصد الشريعة الاسلامية، لأن الفقهاء لا يفرقون بين المرأة البدوية والحضرية في استحقاق ذلك، بل يضعون "العمل والكدَّ والسعاية" كمعيار لاستحقاق الزوجة لبدل الكدِّ والسعاية".
وتبقى مسألة تحديد طبيعة العمل الموجب لذلك محل اجتهاد للقضاء في ظلِّ غياب النص القانوني المحدد لتلك الطبيعة تطبيقا لمبادئ العدالة والانصاف ورجوعا واستكناها للاحالة الى الشريعة الاسلامية كمصدر اساسي من مصادر قانوننا الوطني [المادة:311 م أ ش.
لقد بات من الضروري اليوم تقنين هذا الحق للخروج من ضبابية الاشارة الخَجْلى الواردة في المادة:56 في فقرتها الثانية دون مردود أو نتاج: "تساعد الزوجة زوجها في إدارة شؤون العائلة" فهذه المساعدة وان كانت من مقتضيات الزوجية الا ان ما ينتج عنها من نماء وثروة مشتركة للعائلة سكت المشرع عن مآله سواء في ظل العصمة او انقضائها.
و قد حاولت بعض التشريعات تجاوز هذا بتوزيع الاموال المكتسبة اثناء قيام الزوجية بموجب اتفاق على استثمارها، سواء كان الاتفاق مكتوبا في وثيقة مستقلة عن عقد الزواج، وان لم يكن فبالرجوع للقواعد العامة للاثبات مع مراعاة عمل كل واحد من الزوجين وما قدمه من مجهودات وما تحمَّله من اعباء لتنمية اموال الاسرة [المادة:49 من مدونة الاسرة المغربية].
فصار لزاما اليوم تعديل المادة:58 من مدونتنا لالغاء الرقابة على تصرف المرأة في مالها مطلقا، اعتمادا على عموم الشريعة الاسلامية الأقوى مما اشتهر في مذهبنا المالكي، تمشيا مع عدالة الشرع المبنية على التكامل intégration بين الرجل والمرأة وهو مفهوم أدق من مفهوم المساواة المحض
égalité الذي ينادي به الغرب جهلا بعواقبه المجانفة للفطرة السليمة.
وبشكل أكثر إلحاحا التنصيص على حق السِّعاية والكدِّ للمرأة خصوصا في حال انقضاء الزوجية انصافا للمرأة و ردا لجميل معاشرتها لشريكها خلال الحياة الزوجية حتى نتجاوز الحيف الممارس على المرأة في حال انقضاء العصمة الذي يؤدي الى حرمانها من ثروة أسهمت في بنائها بعرقها وصبرها، وهو حيف لا يملك القضاة سبيلا للوقوف في وجهه لغياب المقتضى القانوني الذي ينص على حصولها على جزء محدَّد قانونا أو مقدَّر قضاء من تلك الثروة التي ساهمت في بنائها وتنميتها، وسيكون ذلك عاملا معزِّزًا لاستقرار العائلة وحافزا على الانتاجية التي تُسهم في عملية النماء الاجتماعي والاقتصادي للمجتمع والدولة، وامتثالا لقول الله تعالى:" وَلَا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ" التي وردت في سياق الحديث عن المرأة المطلقة قبل المَسِيسِ\الدخول، وما من شك انها أولى في من عُوشرت سنينا طوالا فليس من العدل ان تنتهي بطلاق لفظي في أحسن الاوال تخرج به كسيرةً من بيتها لا تحمل الا أثاثا باليًّا في أحسن الاحوال.