تشكل وعي جيلنا في البادية ، نهاية الستينيات وبداية العقد الموالي، على منظومة متكاملة من وسائل الإنتاج وأنماط الإستهلاك ومناقب السلوك وقواعد التربية وسُلَّم أسلاك التعليم و معمار بناء الخيام و مواقعها و الممرات اللازمة بينها و وجهة " فم الخيمة " و موقع المسجد و "خيام التلاميذ" و "المراح" و " فم الميراد"، بمقتضاها يعرف كل بيت موقعه عند "المنزل" دون حاجة إلى مخطط عمراني لأن حمولة ألف سنة من الرحيل و النزول تكفي لتوارث المهمة وإتقانها.
المسجد
*وكان اختيار موقع المسجد ،وحده، يستدعي تبادل الرأي بين الرجال حول مكانه الأنسب ،ومن القواعد الثابتة في هذا المجتمع المتحول ، البعد عن "مراح الحيوان" والتوسط بين "الفريق" و مراعاة المناخ باختيار أكبر شجرة في الصيف طلبا للظل وادْفَئ موقع في الشتاء اتقاء للبرد ، و في كل الأحوال لابد من "زريبة" كثيفة الزرب شتاء و صيفا لضمان طهارة المكان .. و من أروع مظاهر السمو الايماني المتجذر أن الاطفال رغم شقاوتهم لا يقتربون، تحت أي ظرف، من حرمة هذا المكان المتحول مكانًا الثابت ممارسةً و قدسيةً في الوعي الجمعي.
المحظرة
*أما المحظرة ، فلم تكن تطلق، اصطلاحا ، إلا على المستوى الثانوي المتقدم والجامعي والعالي بلغة اليوم، أما ما دونه فمرحلتان : "تدمكي" (التهجي) و غالبا ما تتولاها الأم أو الخالة أو "المرابطة" ، تليها مرحلة "مرابط اللوح"..فيقال : (قاسْ لوحو أو شور مْرابطو )وهي خاصة بحفظ القرآن الكريم وتجويده بختامها "يُحَنَّى" التلميذ علامة على بلوغ شرف التأهل للمرحلة الموالية وتمييزا لمكانة حافظ الكتاب الأجل .. ولا يقال "مشى فلان شور المحظرة إلا إذا كان "سيكتب" أحد الكتب " الصغار" (الاخضري ثم ابن عاشر و أجروم أو الملحة مثلا) أو "الكبار"( الشيخ خليل و اللامية مثلا) و يستوي في هذا الذكر و الانثى وإن خصت العامة ما سمته "كتب العليات"...
والمؤهلات في الثانية تُسمى "حافظ " وقد تتبع ب"مجازى" وفي الثالثة "جمام عالم" وفي الرابعة "عالم" وفي أعلى السلم "عالم كل فن" وهي ألقاب تعطيها العامة ولكن عن دراية ...ولا تستعمل كتابة لتواضع القوم لله تعلى والعلم..
الأضحية
*للتلاميذ ولا سيما "تلاميذ الغربة "حق معلوم في كل المناسبات كالأضحية في الأعياد والاعراس و العقيقة وغيرها..
ولقد ظلت هذه المنظومة خاصية بلاد شنقيط وعلامة تفردها بميزة المجتمع البدوي العالِم الوحيد المتمسك بتقاليده العلمية الإيمانية الراسخة إلى مرحلة الإستقلال السياسي حيث لحق بالتعليم الأصلي بيات ،لأسباب عديدة أهمها الجفاف الذي ضرب البنية التحتية لبيئته الحاضنة وغير معالم مجتمعها فنزح من نزح وتقرَّى من تقرَّى واتجه مرغما للمهن المدرة لما يسد الخلة من توجه ، وساعدت مجانية التعليم عهدَ الجمهورية الأولى على ولوج أبناء النازحين العشوائيين أقسام التعليم النظامي مع بداية تعريب الشهادات، مما جفف منابع المحاظر إلا مدارس قليلة معزولة في الدواخل ..
لكن فترة الانقلابات و ما صاحبها من تفلت و فوضي في التربية والتعليم وعجز عن مواكبة مجانية التعليم وتلبية مطالب النمو السكاني وتزايد الطلب على التمدرس وغيرها أدت إلى عودةٍ لتلمس طرائق عفتها ذارياتُ التقادم والإهمال ، للعودة إلى تعليم محظري نبيل لم يَبْق ولم يُتَدارَكْ منهُ إلا الإسم فنمتْ كالفطريات "محاضر" تتعيش بشكل مُزرٍ مُذِلٍّ على فضلات موائد مؤسسي طبقة طفيلية وليدة آخذة في النمو على جسم مجتمع يعيش تحولات إلى أسفل ، فاستولوا على سمعة المحظرة الشنقيطية و بدأوا بيعها في أسواق مظان الثراء العربي و تحولت المحظرة والشعر و القضاء و سواعد المجندين إلى البضائع الأربع الأكثر رواجا في الثمانينيات ،يستصحب النخاس نماذج منها مع إفادات من وزارات شؤون دينية ،لا تملك من قيمها ، إلا الخاتم الذي تبصم به على أن هذا السمسار "محسن ناشر للعلم في بلاد العلم والعلماء فجزى الله من قدم له يد العون لكفالة محضرة كذا و معهد كيت و مَيْتَم فلان ومسجد التقوى لصاحبه الجليل الشيخ علتان"...وغالبا ما تكون بحوزته شكلية/قصيدة تُرك اسم الممدوح فيها بياضا لتعبَّأ باسم من يدفع قلَّ أ كثر...فما انقضى العقد الاول من التسعينيات حتى أصبحت الأوصاف التي عشنا على ذكرها العطِر عيبًا و مسخرة يُتندر بها في الأوساط المنعمة والأقطار النافطة ...و بدأ الصنبور يجف حتى آخر قطرة ما زال المغامرون يحلبونها بأشداقهم المتودجة حتى يوم الناس هذا ..
فكانت النتيجة الأكثرُ غَمًّا على قلوب المؤمنين الصادقين تضخم أعداد أسماء و عناوين لا تحيل على حقيقة، رغم قداسة المكان وسمعة المسمى...أسوق منها نموذجين:
**حدثني الباحث بالمعهد الموريتاني للبحث العلمي الكاتب س . محمد .م أنه مرَّ في رحلة جمع تراثي بالداخل بعدة مساجد مشيدة في البراري ، انقاد ذات قيلولة قائظة ، مع رفقته ، للإحتماء من الحر بظل أحدها فهاجمتهم أسراب الوطاويط المعششة في الداخل
...فأرادوا ما فضل من ظل الجدار فإذا هو ــ أكرمكم الله ــ محجوزا بأبوال الحمر و قطعانها ...و لما تأملوا أحد وجوه الحائط الحائلة إذا باسم محسن عربي مشهور قد كتب عليه ،ربما ، بغرض التصوير...
**حدثني عمدة إحدى بلديات الداخل أنه بينما كان عائداً من صلاة العيد وسط جمهور المصلين إذ توقفت سيارة دفع رباعي و خرج منها عدد من الرجال الوقورين مظهراً ففردوا لا فتة كبرى بينهم ، أمام الجموع و في لمح البصر طفق آخر يصور المكتوب: سكان بلدية كذا المعوزون يدعون للشيخ فلان ب....لما أسدى إليهم من أضاحي و ملابس في العيد المبارك ...
و لما هم المصلون باستكشاف الامر كان "المحسنون" قد أقلعوا و سط عاصفة رمل عاتية...
من هنا أصبحت بيوت الله تفتتح بدون رعاية ولا سدانة والمحاضر أسماء بدون أساتذة ولا طلاب ، و إن وُجدوا فلا معين ولا مربي يضمن أن لا يكون بعضهم مُسَرَّبا أو مأجورا أو عميلا منتدبا للإساءة إلى مقدساتنا وتحطيم قيمنا و زرع الفتنة بين صفوفنا...
حمى الله موريتانيا بدينها و علمها و وحدتها...آمين .