يثير عمل الحالة المدنية في شقه المتعلق بالقضاء جدلا كبيرا بين العاملين في هذا الحقل منذ مدة وهو جدل قديم جديد؛ لأن الإشكال لا زال قائما، وإن تجاوزه البعض غاضّا الطرف عما درج عليه العمل القضائي قديما وحديثا، محليا ودوليا من عدم وضع الصور على الأحكام، وفقا لما هو مسطر في النصوص القانونية من جهة، ومقدما الاستجابة لِلَجَجِ المواطن إثر سد الأبواب في وجهه من جهة أخرى.
*- وهذا أمر ينبغي أن يلتمس فيه العذر لمن استجاب له منطلقا من مبدإ الملاءمة، كما يجب أن ينصف فيه -أكثر من ذلك- من تمسك بالقانون متشبثا بقناعة مستندة لنصوص صريحة وعرف محلي ودولي ضارب في القدم.
وعلى الرغم من قناعتي بالأهمية القصوى لضبط الحالة المدنية بشكل متطور –وهو أمر لا جدال فيه- فإنني أرى أن تلك الأهمية تتضاءل وتتلاشى كلما انحرفت عن سكة القانون، وانتهكت حرمة القضاء، وكانت على حساب مبدأي: استقلالية القضاء، وفصل السلطات، وحماية القاضي من الضغط (المواد: 89، 90 من الدستور، و7 من القانون العضوي المتعلق بالنظام الأساسي للقضاء).
واعتبارا لهذا كله أقدم: الملاحظات والحلول التالية بخصوص هذا الأمر:
أولا : الملاحظات، ومنها:
أـ أن المواد: 42 و46 و47 من مدونة الحالة المدنية، والمادة 81 من ق.إ.م.ت.إ. التي أحالت إليها المادة 42 من قانون الحالة المدنية قد شكلت عناصر الحكم ولم تذكر أي منها وضع الصورة على الحكم والختم عليها، وما دام الأمر كذلك فإن إضافة أي عنصر آخر يحتاج إلى تعديل هذه الترتيبات، أو استصدار فتوى من المحكمة العليا حتى يكون الأمر ملزما ويمكن التظلم من عدم امتثاله.
وهناك بعض المواد (19 و20) التي تكلمت عن إمكانية وضع الصورة، ولكنها تخاطب القائمين على السجل الوطني للسكان، ولا تخاطب القاضي في اختصاصه في الحالة المدنية المحدد بدقة.
ب- أن المواد السابقة قد جعلت عمل القاضي في الحالة المدنية عملا قضائيا صرفا حيث صرحت بأنه "قرار قضائي حائز على قوة الشيء المقضي به"، بالإضافة إلى انطباق معيار التفرقة بين الأعمال القضائية والأعمال الولائية عليه؛ إذ يمس حقوق الأفراد ويمكنهم التظلم منه.
*- ومؤدى هذا كله: أن المانع من وضع الصورة والختم موجود وهو غرابة هذا النمط على الأحكام، مع انعدام نص به، كما أن المقتضى أيضا موجود وهو رفض الوكالة لقبول الأحكام القضائية إلا بتوفر هذا النمط، وشرط تأثير المقتضى انتفاء المانع كما هو معلوم. والمانع هنا قائم.
*- وفي نظري أنه لا ينبغي توجيه اللوم في هذا الأمر إلى المحاكم وكأنها هي التي تتمنــع وتعرقل عمل الحالة المدنية "رمتني بدائها وانسلت" !؟!
كَلاَّ إن الأولى أن تساءل وكالة الحالة المدنية، وتحمّل المسؤولية في هذه القضية بدل القضاة وتصدر الأوامر الصارمة إليها بامتثال قرارات القضاء، واستخدام مبدإ الملاءمة الذي هو من مبادئ الإدارة عموما ، ويترك للقاضي نهجه الذي هو تطبيق القانون بتجرد وبدون أي ضغط أو تأثير..؟!
ج ـ أن عمل الحالة المدنية ما هو إلا جزء بسيط من اختصاص محكمة المقاطعة ذات الاختصاص العام ذلك الاختصاص الملون بمختلف النزاعات من أحوال شخصية وما يحيط بها وعقار وديون وترائك...الخ، وليس من الإنصاف والحالة هذه أن تحاسب المحكمة في أدائها بجزئية بسيطة ليست في صميم عملها في الأصل البعيد.
*- وهكذا يتضح أن من يقف أمام عدم انسيابة عمل الحالة المدنية ليست المحاكم التي تتمسك بنصوص القانون، وإنما الذي يعرقلها هي الجهة التي تلزم المواطنين بالخضوع لإجراءات لا وجود لها في القانون، ومن ثم تكون المحكمة قد قامت بما هو مطلوب منها .
د- مظاهر الإشكال
إن الإشكال يتجلى في محاولة إخضاع القاضي في صميم حكمه لما يراه البعض ملائما لشكل الحكم، وربما مضمونه حتى يكون على مقاس معين !
والأحكام القضائية عموما إنما يرجع في تحديد أشكالها ومضامينها إلى القانون، لا غير، فلا يحق لأي جهة أن تتدخل في ذلك ولا أن تخترع فيه شكلا حتى ولو كان القاضي نفسه .
ولا معنى لأن تخاطب أي جهة المحاكم بصفة الأمر الذي يقتضي الاستعلاء بأن يكون حكمه وفق الإجراءات التي ترغب هي فيها.
وسأوضح بعض مظاهر هذا النهج المتطاول على حرمة القضاء واستقلاله من خلال ما يلي:
1 ـ يلزم القاضي بوضع صور الأطراف على الأحكام ويختلف عدد الصور بحسب المراكز وهو إجراء مخالف للقانون والأعراف الوطنية والدولية، ومكلف للمواطن من الناحية المادية .
2 ـ وضع الختم في: أعلى نسخة الحكم، أو أسفلها، أو هما معا بحسب المواضع التي تحبذ الوكالة وإلا أصبح الحكم "غير صالح للاستخدام " .
3ـ تسجيل الأرقام الوطنية والتواريخ في أماكن معينة من نسخة الحكم تارة في الأسفل وتارة أخرى في الأعلى بحسب المراكز كشرط لقبول الحكم .
4 ـ إلزام القاضي عن طريق ضغط المواطنين بإصدار أحكام غير جادة وتدعو إلى السخرية كأحكام النسب لشخص معلوم النسب ويحمل بيده مستخرجا وبطاقة تعريف من الوكالة ذاتها بعد أن تم إحصاؤه لديها، وكتصحيح الأخطاء المادية الصادرة منها.
5ـ يكون منطوق الحكم بصيغة محددة من أخطأها من القضاة اعتبر حكمه "موقوف التنفيذ" !؟ (لدى بعض المراكز أيضا).
6 ـ الأحكام القضائية تنتهي صلاحيتها بحسب التاريخ الذي يراه مركز الحالة المدنية المدلى بها أمامه خلافا لترتيبات المادة 296 من ق إ م من أن الأحكام لا تتقادم .
7 ـ تحديد حيز مكاني لا يتجاوزه سريان الحكم القضائي بما يمثل فرضا لاختصاص ترابي ممنوع على القاضي نفسه بنص المادة 48 ق: إ.م.ت.إ؛ فالحكم الصادر مثلا عن محكمة لكصر عديم الحجية أمام أي محكمة أخرى من محاكم انواكشوط، خلافا لنص م: 302 من ق: إ.م.ت.إ من أن الأحكام تكون نافذة في عموم التراب الوطني.
8 ـ عدم سريان الحكم القضائي المثبت لميلاد الطفل إذا لم يكن مصحوبا بإفادة من ممرضة (لدى بعض المراكز).
وهكذا أصبح الحكم القضائي الذي كان يجد قوته في القانون محل سنده ويكتسي هيبته من قوة إلزامه في واد والقانون في واد؛ فطالما رأيت جمعا من الناس تنوء أياديهم برُزمٍ من الأحكام والقرارات التي غالبا ما يكون مآلها عدم الجدوائية.
هـ- ما يترتب على هذا النهج
ـ وجود جهة رقابة من خارج القضاء تمارس صلاحيات القبول والرفض
ـ انتحال صفة محكمة الاستئناف بتعقب محاكم الدرجة الأولى
ـ الحط من هيبة القاضي وامتهانه بازدراء الأحكام والتقليل من أهميتها
*- إن رفض الأحكام القضائية وتقدير مدى انسجامها مع الواقع والقانون منوط على وجه الحصر بالمحاكم الأعلى درجة ووفق إجراءات وضوابط محددة، وإلقاء الحبل فيها على الغارب - دونما تقيد بالقانون - لأي جهة يعد من أكبر المخاطر على القضاء والدولة؛ فلا يمكن لأي جهة غير قضائية أن تُنَصِّب نفسها كرقيب فتستدرك على بعض الأحكام وترفض الانصياع لبعضها إلا عن طريق الطعن بالطرق القانونية فقط.
*- ثم إن الحكم القضائي يعرف بأنه عنوان الحقيقة والإخبار بها على وجه الإلزام، وإلا كان كلاما كغيره من الكلام، وذهبت قداسته وهيبته.
وعليه فإنني - وبناء على ما تقدم واستدراكا للموقف - أضع بين أيدي الجميع بعض المقترحات والحلول التي أحسبها مفيدة في هذا الشأن.
ثانيا:الحلول القانونية المقترحة، وتتمثل في:
1 ـ استصدار فتوى عاجلة من المحكمة العليا (في غرفها المجمعة) في الموضوع يمكن مخاطبة القضاة والوكالة من خلالها أو تعديل المادة 81 من ق إ م بإضافة فقرة جديدة تتضمن وضع الصورة على كافة الأحكام أو بعضها.
2- الشروع في تعديل المواد السابقة المشكلة للحكم لحسم ما يتعلق بوضع الصورة والختم على الحكم.
3 ـ متابعة كل من يعرقل إنفاذ الأحكام القضائية بلا صفة، أو يقلل من شأنها أو يزدريها أو يهز ثقة المواطنين فيها، وأذكر هنا ببعض النصوص التي تتضمن بعض المقتضيات الجزائية كالمادة 208 من القانون الجنائي وكذا المادتين 179 و 240 من القانون ذاته.
4 ـ الحث على احترام مبدإ استقلالية القاضي الجالس، وعدم ممارسة الضغط عليه والتأثير على قناعته بأي نوع كان، ومن أي جهة.
5 ـ عقد ملتقيات تجمع كافة المعنيين والمهتمين بالموضوع لنقاش الإشكال والخروج بتصور موحد (وقد سبق للوكالة أن تعهدت بهذا للسيد رئيس المحكمة العليا كما أشار إليه التعميم الصادر عنه برقم: 01/2014).
6- تخليص القضاء من أسْر الحالة المدنية؛ ليتفرغ لمهامه الأصلية (فض المنازعات)، وترك الاختصاص في شؤون الحالة المدنية كلها للوكالة والأجهزة الأخرى وذلك بعد تعديل قانون الحالة المدنية لذلك.
وفي هذا المقام أؤمل من الغيورين على احترام القانون وهيبة القضاء أن يكونوا ظهيرا للقاضي المتمسك بمنطق القانون، ومؤازرين له فيما يحدوه من استقلالية وحياد، وتجرد عن المؤثرات الخارجية ما دام متمسكا بتطبيق النصوص فقط (فلا يُحمَّل أوزار غيره، ولا يحمل ما لا يعنيه)؛ حتى نصل جميعا إلى الهدف المنشود ألا وهو: إقامة العدل.
وختاما أعتقد أن على الجميع أن يكونوا جادين في السعي إلى إنفاذ القانون وجعله هو الفيصل الوحيد بين الجميع: إدارات، وأجهزة، وأفراد، بدل أساليب الضغط والإكراه، وابتداع الطرق المجانبة للقانون.
القاضي: محمد محمود بن أحمد
رئيس محكمة مقاطعة أمرج .