بينما كانت سخيلة تستلقى مستسلمة للنعاس يسرنديها تتعاورها صنوف الأفكار، إذ وقع على صدرها كتاب طائش فهبت مذعورة فإذا هو دعوة من وزارة التوجيه الإسلامي لحضور "مؤتمر علماء السنة، ودورهم في مكافحة الإرهاب والتطرف" المنعقد بانواكشوط يومي 23-24 مارس 2016.
فكرت سخيلة ثم قدرت ثم فكرت وقدرت ما لي ولسليم!! ألست سخيلة؟ أليست وزارة التوجيه الإسلامي؟ أليسوا العلماء؟ ما لي لا أرى الهدهد الذي ألقى الكتاب؟ أألقاه صالح من القبيل الذي يرانا من حيث لا نراه؟ أأعيش حالة باراسيكولوجية خاصة؟!.
كانت سخيلة قد ضجت من هامشيتها في الحياة، كانت تئن كل ليلة أنين الحجر الصغير كما صوره إيليا أبو ماضي وفد عزمت على ما عزم عليه:
أيّ شأن يقول في الكون شأني ** لست شيئا فيه ولســـت هباء
لا رخام أنا فـــأنحت تمثا ** لا، ولا صــخرة تكــون بناء
لست أرضا فأرشف الــماء أو مــــاء فأروي الحدائق الغنّاء
لست درا تنافس الغادة الحـــــــناء فيه المليــحة الحسناء
لا أنا دمعة ولا أنا عــــين ** لست خـالا أو وجنة حـمراء
حجر أغبر أنا وحـــــقير** لا جمالا ، لا حكمة ، لا مــضاء
فلأغادر هذا الوجود وأمضــي ** بسلام ، إني كرهت البـــقاء
كان من حظ سخيلة أن الكتاب ألقي إليها قبل تنفيذ القرار، وبعد محاورات نفسية استغرقت ليلة ونصف يوم قررت سخيلة الالتحاق بالمؤتمرين، وصلت قاعة المؤتمرات تلقتها وجوه تعرف منها وتنكر، أسهمت الوجوه التي تعرف في أن تستعيد توازنها، فقد رأت علماء معدودين ومتعالمين عير محصورين، تنكبت العلماء احتراما لهم، فما زالت رغم كل ما عانت تختفظ ببقية أخلاق وشيء من التقوى، وقد علمت أن المتشسبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور، وأن أعظم أنماط التزوير تزوير شهادة الموقعين عن الله. وهكذا رأت مكانها برزخا بين العلماء والمتعاملين، فوقفت موقفا أثار استغراب الحاضرين.
ما إن اتزنت حتى بدأت تستمع بتركيز إلى المحاضرات: استمعت إلى من هم في حكم تلاميذها فشرعت في تدوين خواطرها، وقررت أن تلقي كلمة، وقد أخبرت أنه لا توجد لائحة صارمة، فاستشفعت بشخص كانت بينها وإياه معرفة منذ سنين ليسجلها، وهناك انتابتها موجة من التردد، كيف أتكلم أمام العلماء: فلان وفلان وفلان، ثم هدأت نفسها قائلة: سأفعل فربما أنتبه وأنبه إلى ما لم ينتبهوا إليه فأنا صاحبة إتباع المال المبال حين احتار عامر بن الظرب..
لفت انتباه سخيلة غرابة العنوان "مؤتمر علماء أهل السنة" ثم فوجئت بأن بصيرتها الزبائية لمحت جل المداخلات عرجاء يمشي على ساق واحدة: هي طاعة الحاكم وإن فعل ما فعل ..
ولأنها لم تنم البارحة ولإجهادها النفسي أخذتها سنة طفيفة تنبهت منها وهي تسمع من المكبر الآن مع مداخلة سخيلة.
تقدمت ببطء وثقة متحدية النظرات المستغربة لاسم غريب ومجلس غريب، بعدما حمدت الله وأثنت عليه بما هو أهله قالت اسمحوا لي أيها العلماء واعذروني أيها المتعالمون، أحيي من العلماء كل ضيف و ألوم من المتعالمين كل ضيفن، اسمحوا لي أن أعبر عن منتهى فرحتي وسروري بالكتاب الذي ألقي إلي منكم فقد جاء في وقت قررت فيه الخروج الأبدي من حياتكم.
قد يخل إليكم أنني سأنتحر لكن ذلك ظن في غير محله، كنت سأغادر حياتكم بطريقة أخرى، لا شك أن العلماء فهموني، أما المتعالمون فلا معقب لصنع الله فيهم!!!
علماءنا الأجلاء اسمحوا لي بملحوظات اهتديت إليها لم تهتدوا إليها:
وكم وكم من عامر في بلدي ** وعامر لمثلها لم يهتد
الملحوظة الأولى: أن من حضروا لهذا الملتقى لم يوفقوا في التعبير بعلماء أهل السنة فهذه العبارة المحملة بشحنة طائفية حقق بها أهل الأهواء والزيغ مكسبا لم يحلموا به قط، وهو أن يكون أهل السنة مجرد طائفة، والحقيقة أن أهل السنة ليسوا طائفه بل هم الأمة، أما الطوائف فشذاذ تنكبوا الطريق ومن الظلم جعل الشواذ قسيما للسواد الأعظم. لقد كانت الأمة أمة واحدة تسمى بالمسلمين ثم شذ الخوارج كما تنبأ النبي صلى الله عليه وسلم فسموا باسمهم ثم شذ الشيعة عقديا لا سياسيا فسموا باسمهم وبقيت الجماعة كما كانت ثم ظهر القول بالقدر والإرجاء فنسب أهله إليه وظلت الأمة كما هي ولهذا كان من أحسن ما عرف به أهل السنة ما روى ابن عبد البر قال: "جاء رجل إلى مالك فقال: يا أبا عبد الله، أسألك عن مسألة أجعلك حجة فيما بيني وبين الله تعالى. قال مالك: ما شاء الله لا قوة إلا بالله، سل. قال: من أهل السنة؟ قال: أهل السنة الذين ليس لهم لقب يعرفون به، لا جهمي، ولا قدري، ولا رافضي".
كان الداخل في الإسلام أول ما يدخل يكون من جماعة المسلمين وبذلك يكون سنيا بالوصف لا بالعلمية، أما حين يكون أهل السنة طائفة فسيكون مضطر ا إلى اختيار طائفته من أول يوم!!!
فضلا عن ذلك فإن رفع شعار أهل السنة سيؤدي حتما إلى ضرورة تحديد من هم أهل السنة؟ وحينئذ سيكون الأشعرية والصوفية ومن يتسمون بأهل الحديث ويسميهم خصومهم مجسمة سيكونون خصوما متشاكسين قل منهم من يقبل أن يلتف بعباءة السنة غيره، ولا تسألوا حينئذ عن التشرذم والشقاق؟
الملحوظة الثانية: أنكم أبنتم للرعية ما عليها من حق السمع والطاعة وحسنا فعلتم، لكنكم لم تبينوا للقادة ما عليهم من واجب اتجاه الرعية من إقامة العدل بينهم يقول الله سبحانه وتعالى: { إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ } [النساء: 58]. ويقول: { إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ }[النحل: 90]. وخفض الجناح لهم يقول جل شأنه: { وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } [الشعراء: 215]. وأن عليهم السعي فيما يجلب للرعية النفع، ويدرأ عنها الضرر، وألا يغشوها روى البخاري ومسلم: «ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته، إلا حرم الله عليه الجنة». وألا يعذبوها أو يحطموها روى مسلم عن عائذ بن عمرو، رضي الله عنه أنه دخل على عبيد الله بن زياد، فقال: أي بني: إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن شر الرعاة الحطمة، وإياك أن تكون منهم»، والحطمة صيغة مبالغة من الحطم كالهمزة من الهمر.
ثم ما يمنعكم من تذكير الحكام بدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم من ولي من أمر أمتي شيئًا فشق عليهم فأشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئًا فرفق بهم فأرفق به». رواه مسلم
إنني أنصح أغلبكم بدراسة كتاب "فضيلة العادلين من الولاة ومن أنعم النظر في حال العمال والسعاة" للمحدث الشهير الحافظ أبي نعيم الأصبهاني صاحب كتاب حلية الأولياء وطبقات الأصفياء.
إنني على ثقة من أنكم لو قرأتموه ما كانت آراؤكم على هذا النحو من العرجء فمما ورد فيه: قال أبو نعيم "وتقرير الجاهلين والجائرين في توليتهم بعد الوقوف عليهم أعظم الغش" وفيه: "إقامة العدل أحرى من عبادة الدهور والأعوام كذلك تمكين الجاهلين والجائرين أربى من عصيان الشهور والأعوام" ثم ساق بسنده إلى أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عدل ساعة خير من عبادة ستين سنة قيام ليلها وصيام نهارها وجور ساعة في حكم أشد وأعظم من معصية ستين سنة"
وفيه عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" "يوم من إمام عادل أفضل من عبادة ستين سنة وحد يقام في الأرض أزكى فيها من قطر أربعين يوما"
ولما ساق بعض الأحاديث الدالة على الصبر على إساءة السلطان كحديث عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: سيليكم أمراء يفسدون وما يصلح بهم أكثر، فمن عمل منهم بطاعة الله فلهم الأجر وعليكم الشكر، ومن عمل منهم بمعصية الله فعليهم الوزر وعليكم الصبر" ساق أمثلة من إنكار العلماء على السلاطين مومئا أن ذلك ليس خروجا ومما ساق في ذلك أن أبا مسلم الخولاني دخل على معاوية بن أبي سفيان فقال السلام عليكم أيها الأجير!! فقال الناس ( مه ) الأمير يا أبا مسلم ثم قال السلام عليك أيها الأجير فقال الناس الأمير فقال معاوية دعوا أبا مسلم فهو أعلم بما يقول، فقال أبو مسلم إنما مثلك مثل رجل استأجر أجيرا فولاه ماشيته وجعل له الأجر على أن يحسن الرعية ويوفر جزازها وألبانها فإن هو أحسن رعيتها ووفر جزازها حتى تلحق الصغيرة وتسمن العجفاء أعطاه أجره وزاده (من قبله) زيادة وإن هو لم يحسن رعيتها وأضاعها حتى تهلك العجفاء وتعجف السمينة ولم يوفر جزازها وألبانها غضب عليه (صاحب الأجر) فعاقبه ولم يعطه الأجر (فقال معاوية ما شاء الله كان).
وروى أيضا عن شبيب بن شيبة قال دخلت على المهدي فقال لي يا أبا معمر حدثني عن عمرو بن عبيد فوالله لرأيته يوما ودخل على أبي جعفر المنصور فقال له يا أمير المؤمنين إن الله قد أعطاك الدنيا بكمالها فاشتر نفسك منه ببعضها، واعلم أنك واقف بين يديه وسائلك عن مثاقيل الذر من الخير والشر وأنه لا يرضى منك إلا بما لا ترضى لنفسك إلا به، وأنت لا ترضى إلا بأن يعدل عليك، والله تعالى لا يرضى إلا بالعدل على الرعية، يا أمير المؤمنين إن وراء بابك نارا تأجج من الظلم والجور، والله ما يعمل خلف بابك بكتاب الله ولا سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، قال فبكى أبو جعفر بكاء شديدا فقال له سليمان بن مجالد أكفف عن أمير المؤمنين فقد شققت عليه، فقال إن أمير المؤمنين ميت غدا وكل ما ترى ها هنا أمر مفظع وأنت جيفة بالعراء فلا يغني عنك إلا عملك، ولهذا الجدار خير لأمير المؤمنين منك إذا طويت عنه النصيحة وافقت من الفضيحة، ثم قال يا أمير المؤمنين إن هؤلاء اتخذوك سلما لشهواتهم فكلهم يوقد عليك ناره ثم تلا {ألم تر كيف فعل ربك بعاد} إلى أن بلغ {إن ربك لبالمرصاد} يا أمير المؤمنين لمن عمل مثل أعمالهم وفعل مثل فعالهم، يا أمير المؤمنين لولا أنها مضت عن من كان قبلك لم يصل إليك منها شيء، فاعلم أنك وارث من مضى وموروث غدا، وقادم على ربك ومجزي بعملك، فاتق ليلة تمخض عن يوم لا ليلة بعده وهي ليلة القيامة !!! قال فخلع أبو جعفر خاتمه وقال دونك ما ورائي يا أبا عثمان فادع لي أصحابك واستعملهم فوالله إني لآمر عمالي بالعدل وأكتب ذلك في عهودهم، قال كلا ادع أصحابي لعدل تظهره واطرد هؤلاء الشياطين عن بابك لأن أهل الدين لن يأتوك وهؤلاء ببابك، لأنهم لو عملوا بما يرضيك أسخطوا خالقهم، وإن عملوا بما يرضي خالقهم أسخطوك فأرشوك، ولكن استعمل على العمل الواحد في كل يوم مئة كلما رابك واحد فاعزله وول غيره، فوالله لو علم هؤلاء أنك لا ترضى منهم إلا بالعدل ولا تقربهم إلا عليه لقد تقرب إليك به من لا نية له فيه ولا حسبة، ثم قام فخرج"
وقد روى أيضا عن ابن عباس مما يدل على شؤم جور السلطان: "أن ملكا من الملوك خرج يسير في مملكته وهو مستخف من الناس حتى نزل على رجل له بقرة، فراحت عليه تلك البقرة فحلبت فإذا حلابها مقدار ثلاثين بقرة، فحدث الملك نفسه أن يأخذها فلما كان الغد غدت البقرة إلى مرعاها ثم راحت فحلبت فنقص لبنها على النصف وجاء مقدار حلاب خمس عشرة بقرة، فدعا الملك صاحب منزله فقال أخبرني عن بقرتك رعت اليوم في غير مرعاها بالأمس؟ قال لا، قال فشربت في غير مشربها بالأمس؟ قال لا، قال فما بال لبنها نقص على النصف؟ قال أرى أن الملك هم بأخذها فنقص لبنها، فإن الملك إذا ظلم أو هم بظلم ذهبت البركة !! قال الملك أنى عرفت ذلك؟ قال هو ذاك كما قلت لك، قال فعاهد الله عز وجل الملك في نفسه أن لا يأخذها ولا يملكها ولا تكون له في ملكه أبدا، قال فغدت ترعى ثم راحت ثم حلبت فإذا لبنها قد عاد مقدار حلب ثلاثين بقرة فقال الملك بينه وبين نفسه واعتبر فقال إن كان الملك إذا ظلم أو هم بظلم ذهبت البركة لا جرم لأعدلن ولأكونن على أفضل حال"
الملحوظة الثالثة: هي أنكم بالانحياز للمستبدين وتسويغ أخطائهم تسيؤون إلى الإسلام وتبغضون الشباب التائق إلى الحرية والعيش الكريم فيه، وذلك حين يصور له دين مهانة وذلة لا يعرف الحق فيه إلا بالسيف والتغلب، وهو مسلك الكنيسة في ما قبل الثورة الفرنسية و كانت ردة الفعل يومها أن رفع شعار "اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس" وكانت بداية طلاق أبدي بين الدين وشؤون الحياة.
الملحوظة الرابعة: أن حكاية بعضكم اتفاق أهل السنة على الصبر على السلطان ولو كان فاسقا غير دقيق فهذا القرطبي وهو من هو يذكر الخلاف في المسألة فيقول عند تفسير قوله تعالى: لا ينال عهدي الظالمين: ما نصه: "الحادية والعشرون : استدل جماعة من العلماء بهذه الآية على أن الإمام يكون من أهل العدل والإحسان والفضل مع القوة على القيام بذلك، وهو الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم ألا ينازعوا الأمر أهله ، على ما تقدم من القول فيه. فأما أهل الفسوق والجور والظلم فليسوا له بأهل، لقوله تعالى : {لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} ولهذا خرج ابن الزبير والحسين بن علي رضي الله عنهم. وخرج خيار أهل العراق وعلماؤهم على الحجاج، وأخرج أهل المدينة بني أمية وقاموا عليهم ، فكانت الحرة التي أوقعها بهم مسلم بن عقبة، والذي عليه الأكثر من العلماء أن الصبر على طاعة الإمام الجائر أولى من الخروج عليه ، لأن في منازعته والخروج عليه استبدال الأمن بالخوف ، وإراقة الدماء ، وانطلاق أيدي السفهاء ، وشن الغارات على المسلمين ، والفساد في الأرض. والأول مذهب طائفة من المعتزلة ، وهو مذهب الخوارج ، فاعلمه. الجامع لأحكام القرآن ج 2 ص 96. فتحصل من كلامه أن الخروج على الإمام الجائر مذهب لبعض أهل السنة ومنهم الصحابة الذين عد والمعتزلة والخوارج وأن الصبر مذهب أكثر العلماء.
قال لي صاجبي وسرة عيبي مالك تصفق أجننت؟ قلت أما سمعت مداخلة سخيلة في مؤتمر أهل السنة؟ قال على أي قناة ؟ فلت لا أدري ربما كانت لقطة من أحلام .