في فاتح مارس من هذا العام خلدت اللجنة الوطنية للتربية والثقافة والعلوم بجامعة نواكشوط اليوم الوطني للغة العربية، وقد ترأست الأمينة العامة لوزارة الثقافة والصناعة التقليدية هذا الحفل. وفي يوم 20 من نفس الشهر خلدت اللجنة الوطنية للتربية والثقافة بالمدرسة العليا للأساتذة اليوم الدولي
للفرانكفونية، وقد ترأست وزيرة الثقافة والصناعة التقليدية هذا الحفل.
الاحتفال باليوم الدولي للفرانكفونية جاء بعد أسبوع حافل من الأنشطة الثقافية والأدبية والفنية التي نظمتها الجمعية الموريتانية للفرانكفونية، وقد تم اختتام هذا الأسبوع الحافل بالأنشطة بحفل ترأسته وزيرة الثقافة.
الصادم في الأمر أن يوم اللغة الفرنسية والفرانكفونية قد تحول من يوم ـ كان يجب أن يكون يوما عابرا ـ إلى أسبوع حافل بالندوات وبالدورات التكوينية وبمختلف الأنشطة الثقافية والفنية، وفي هذا الأسبوع تنافست الشركات والمؤسسات في الرعاية والمشاركة، وتزاحم "كبار القوم" في القاعات، وترأست الوزيرة بنفسها الحفل المنظم في ختام هذا الأسبوع الحافل بالأنشطة. أما بالنسبة ليوم اللغة العربية، لغة القرآن، والتي يُقال عنها أيضا بأنها هي اللغة الرسمية في هذه البلاد، فقد تقلص يومها وتحول من يوم إلى مجرد ساعة من نهار، وغابت الشركات والمؤسسات عن تخليد هذا اليوم، وغاب "علية القوم"، وغابت أيضا الوزيرة، وتم الاكتفاء بإرسال الأمينة العامة لوزارة الثقافة لترأس المأتم المخلد لليوم العالمي للغة العربية.
هذا عن تخليد اليوم الوطني للغة العربية، أما عن تخليد يومها العالمي فتلك قصة أخرى من فصص تهميش اللغة العربية في هذه البلاد . تقول القصة بأن المرة الوحيدة التي خلدت فيها بلادنا اليوم العالمي ليوم اللغة العربية تخليدا لائقا كانت في يوم الثامن عشر من ديسمبر من العام 2010، وفي ذلك اليوم تعهد الوزير الأول حينها بتطوير اللغة العربية، وقد قال الوزير الأول في ذلك اليوم بأن موريتانيا ستبقى بلدا ناقص السيادة، ما لم يتم الاعتناء باللغة العربية، وجعلها لغة إدارة وعمل. ظل التمثيل الرسمي المخلد لليوم العالمي للغة العربية يتراجع ويتقلص من بعد العام 2010 إلى أن اختفى تماما في العام 2015، فمن وزير أول في العام 2010، إلى وزير، إلى أمين عام لوزارة، إلى مستشار، إلى لا شيء في العام 2015 .
تعهد الوزير الأول في العام 2010 مع أمور أخرى لا يتسع المقام لبسطها أقام القيامة في هذه البلاد، فأصدرت الأحزاب السياسية بيانات التنديد والاستنكار، وكادت الأمور أن تخرج عن السيطرة في جامعة نواكشوط التي شهدت مناوشات عرقية. كل تلك الأحداث دفعت بوزير التعليم العالي حينها إلى زيارة الجامعة على عجل، وكان الهدف الوحيد من تلك الزيارة هو أن يؤكد معالي الوزير لطلاب جامعة نواكشوط ولكل الموريتانيين بأن الحكومة لا تفكر إطلاقا في تعريب الإدارة، وبأنه لا مساس بالوضع القائم.
هذه القيامة التي قامت في يوم 18 ـ 12 ـ 2010 بسبب إساءة الوزير الأول للغة الفرنسية، لم تتكرر في يوم 27 ـ 09 ـ 2015 عندما نشرت بعض المواقع، وعلى لسان شاهد عيان، بأن الوزير الأول الحالي قد تشنج في مكتبه وضرب الطاولة غاضبا عندما قدم له وزير الداخلية تقريرا باللغة العربية، وبأنه ـ أي الوزير الأول ـ قد قال : " نحن هنا نعمل باللغة الفرنسية لا باللغة العربية".
فبأي منطق تقوم قيامة موريتانيا عندما يساء للغة الفرنسية، وذلك في الوقت الذي تغيب فيه ردود الأفعال حتى ولو كانت مجرد ردود أفعال خجولة عندما يساء للغة العربية، والتي يُقال لنا بالغدو والآصال بأنها هي اللغة الرسمية في هذه البلاد؟
وبأي منطق يخلد يوم اللغة الفرنسية بأسبوع حافل بالأنشطة، وبحضور رسمي رفيع، ولا يخلد يوم اللغة العربية إلا بساعة من نهار وبحضور رسمي متواضع؟
وبأي منطق يعبر الجميع عن قلقه عندما يهدد مصير الآلاف من حملة الشهادات باللغة الفرنسية، ولا يعبر أي أحد عن قلقه عندما يهدد مصير عشرات الآلاف من حملة الشهادات باللغة العربية؟
وبأي منطق يتذكر الجميع تهميش لغاتنا الوطنية (البولارية والسنونكية والولفية) عندما تتم المطالبة بإعادة الاعتبار للغتنا الرسمية (اللغة العربية)، ولا يتذكر أولئك تهميش هذه اللغات عندما يكون ذلك التهميش لصالح اللغة الفرنسية؟
ألم يحن الوقت لأن نطالب بإعادة الاعتبار للغاتنا الوطنية الأربعة ( العربية، البولارية، السنونكية، الولفية)، والتي تضررت كلها بسبب التمكين للغة الفرنسية في هذه البلاد ؟
ألم يحن الوقت لأن نكشف زيف المغالطات التي تقول بأن اللغة الفرنسية هي لغة ضرورية للتواصل فيما بيننا، وبأنها ضرورية للتواصل مع الأشقاء في الدول المجاورة؟
ألم يذكر آخر تقرير للمنظمة الدولية للفرانكفونية بأن نسبة من يتحدث قليلا أو كثيرا باللغة الفرنسية في موريتانيا لا تتجاوز 13% ؟
فلماذا يتم التركيز على نسبة 13% من المجتمع التي تتحدث باللغة الفرنسية مع لغاتها الأم ولا يتم الاهتمام ب87% من الموريتانيين تجهل اللغة الفرنسية بشكل كامل؟
أليس من المستغرب أن يخف الحماس لدى الفرنسيين للدفاع عن لغتهم لصالح اللغة الانجليزية، وذلك في الوقت الذي يتزايد فيه حماس أهل هذه البلاد للدفاع عن الفرنسية؟
ألم يحن الوقت لأن تتوقف هذه المغالطات والخدع ؟ ألم تكشف آخر الإحصائيات بأن اللغة العربية تحتل الرتبة الرابعة عالميا من حيث الانتشار وبنسبة 6.06% بينما تحتل اللغة الفرنسية الرتبة التاسعة وبنسبة لا تتجاوز 3.05% ؟
ألم يحن الوقت لأن يقول كل موريتاني وبأعلى صوته : عاشت اللغة العربية..عاشت البولارية..عاشت السنونكية..عاشت الولفية. أما الفرنسية فإذا كان لابد لها من العيش معززة مكرمة، فليكن ذلك في فرنسا لا في موريتانيا.
رحم الله "مرتضى جوب" الذي كان يقول : "نحن لا ندافع عن لغة فرنسا.. بل عن لغاتنا الوطنية والتي من بينها العربية."
وسلام على الوزير السابق "صو آبو دمبا"، يوم رفض أن يتحدث في التلفزيون الرسمي باللغة الفرنسية، وأصر على أن لا يتحدث إلا باللغة العربية أو بالبولارية.
وسلام على نائب مقاطعة "بوكي" السابق السيد "سي صمبا" الذي رفض ذات يوم برلماني مثير أن يتحدث باللغة الفرنسية، وأصر على أن لا يتحدث إلا بلغته الأصلية، أي بالبولارية، وكانت تلك سابقة من نوعها في الجمعية الوطنية.
المضحك المبكي أن بعض النواب اعتبر بأن الحديث بالبولارية في ذلك المقام لم يكن عملا مناسبا، ولقد فات أولئك النواب بأن الحديث باللغة الفرنسية في الجمعية الوطنية، والذي تعود عليه النواب هو الذي لم يكن عملا مناسبا، بل إنه عمل مشين، ولا يليق بنائب محترم أن يتحدث بلغة أجنبية تحت قبة البرلمان.
لقد حان الوقت لأن يعلم الموريتانيون المدافعون عن لغاتنا الوطنية: البولارية والسنونكية والولفية بأنهم يرتكبون خطأ جسيما عندما لا يطالبون بمنح اللغة العربية المكانة التي تستحق، ولقد حان الوقت أيضا لأن يعلم المدافعون عن اللغة العربية بأن دفاعهم عن العربية سيبقى عملا ناقصا إذا لم يشرك معه الدفاع عن بقية لغاتنا الوطنية.
لقد حان الوقت لأن يعلم كل موريتاني بأن من واجبه أن يضع كل لغاتنا الوطنية في سلة واحدة، وأن يدافع عنها كلها وفي وقت واحد، وأن يعمل من أجل وقف تهميش هذه اللغات لصالح لغة أجنبية تتراجع مكانتها العالمية باستمرار.
ولقد حان الوقت لأن يعلم الجميع بأن بقاء الحال على حاله لا يخدم لغاتنا الوطنية، وإنما يخدم اللغة الفرنسية، ولقد حان الوقت لأن يعلم الجميع بأن سكوتهم على هذا الوضع المختل، وبأن وقوفهم أمام أي محاولة ـ حتى ولو كانت دون المستوى المطلوب ـ تهدف لإعادة الاعتبار للغتنا الرسمية بأن كل ذلك قد أصبح من الأعمال المفضوحة والمكشوفة، والتي لم تعد تخدع أحدا.
هذه ليست دعوة لمقاطعة اللغات الأجنبية، فتعلم لغة أجنبية كالانجليزية مثلا ـ وأقول الانجليزية لا الفرنسية ـ قد أصبح ضرورة من ضرورات العصر. هذه ليست دعوة لمقاطعة اللغات الأجنبية، ولكنها دعوة من أجل وقف التهميش الممارس ضد لغاتنا الوطنية لصالح اللغة الفرنسية، وهي دعوة أيضا من أجل تفعيل المادة السادسة من الدستور الموريتاني، ولن يتم تفعيل هذه المادة إلا إذا أصبحت اللغة العربية ـ لا اللغة الفرنسية ـ هي لغة الإدارة في هذه البلاد.
حفظ الله موريتانيا..
محمد الأمين الفاظل