ما إن اختلط صراخه بنحيبها حتى أعلنت تلك السيدة البدينة وهي تمسح العرق المتصبب بطرف ثوبها "اطْفُلْ" .. ابتسمت ودموعها تسبق كل العبارات.. وأخيرا جاء البشير..نعم .. لقد مضت ثلاثة أرباع السنة على ذلك اليوم الذي علمتْ فيه أنها تحمله بين أحشاءها ..نعم هاهو ذا بعد مائتان وسبعون يوما كانت فيها مسرحا لكل الأوجاع والآهات ..نعم إنها أيام وشهور عصيبة لكنها رغم ذلك كانت أرحم بها من السنوات العجاف التي سبقتها .. سنوات ذاقت فيها مرارة الحرمان وويلات الوحدة. كان ملجأها الوحيد فيها دعوة في جوف الليل "رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ".
برضا أنساها كل الآلام أمسكت ذلك الصغير الضعيف الذي بدأت مملكته للتو لتضيع هي في زحمتها .. لا نوم قبل نومه ولا طعام قبل طعامه .، تضحك حين يبتسم وتبكي قبل أن يتأوه ..
سنوات مرت مسرعة حاملة معها آلام وآمال أم .. أم لم تعرف التقسيط في عطاءها... فكل عام كان ينسيها الذي قبلهًً.. كل شيء يكبر بسرعة ..المتطلبات والتحديات لكن عزيمتها كانت أكبر من الجميع .. سنوات طرقت فيها كل أبواب الرزق .. وظائف ، تجارة ، مقاولات..
"أمي آن عدتْ راجلْ".. على أنغام صوته الخشن المليء بالتمرد استفاقت من حلمها الجميل.. حاولتْ أن تستوعب ذلك الموقف والشريط السابق يعاود نفسه الف مرة ومرة.. استعادت رباطة جأشها وهي تنظر بعينيها المغرورقتان بالدموع إلى ذلك الرجل الواقف أمامها.. كانت كأنها تراه لأول مرة .." نعم أدري .. أليست تلك أمنيتي أن تصبح أنت رجلا..". بعنفوان وغطرسة كان رده هذه المرة قاسيا "ولقد أصبحت .. إذن فالتتركي لي حريتي و لا تتدخلي في حياتي بعد اليوم ..".
خمسة أعوام أخرى مضت لكنها متثاقلة ..فلا شيء فيها يبدو مستعجِلا عدى خطوط الأيام التي بدأت تغزو ذلك المحيا الذي كان يوما ما جميلا .. نعم إنها خمسة أعوام على رجولته و أربع على هجرته وعامان على زواجه وسيخبرونها يوما ربما عن أولاده .. خمس سنوات لكنها في قاموس أيامها خمسون قرنا من البؤس ..لقد انطفأ كل شيء وأصبحت تلك الأم تعيش على قارعة حياة ذلك (الرجل).
أتمنى أن تكون هذه القصة من نسج خيالي .. لأني أجد صعوبة في أن أخبركم أن هذه الأنثى الضائعة لاتزال تجر أذيال خيبتها بين ظهرانيكم...( وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي ۖ إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ )
نقلا عن صفحة المدونة : Fatou Veten .