إعلانات

حكم المخدرات في ضوء مقاصد الشريعة

أحد, 06/12/2015 - 21:01

تناول الفقهاء القدماء المخدرات في مبحث المسكرات   وقالوا إن المسكرات هي   ما أذهبت العقل  و قالوا إن  رأسها الخمر   و حصل الإجماع علي أنها حرام كتابا وسنة وإجماعا  فمن الكتاب قوله تعالي (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91) سورة المائدة

 وجاء في الحديث لعن شاربها وساقيها وبائعها .

و الخمر  التي  هي محل النص  تكون من العنب و قد حصل  الإجماع علي حرمة قليلها و كثيرها  و حرمة بيعها  والمتاجرة فيها .

غير أنه وقع الخلاف بشأن المسكرات من غير العنب فقال جمهور فقهاء الحجازوجمهور المحدثين إن قليل الأنبذةالمسكرة وكثيرها حرام .

وقال العراقيون إبراهيم النخعي من التابعين وسفيان الثوري وابن أبي ليليوابن شبرمة وأبي حنيفة إن المحرم من سائر الأنبذة هو السكر نفسه لا العين .

واستدل فقهاء الحجاز بما رواه البخاري ( كل شراب أسكر فهو حرام ) وحديث مسلم (كل مسكر خمروكل خمر حرام ) فهذان الحديثان الصحيحانهما مستند فقهاء الحجاز ,

كما استدلوا أيضا باللغة من جهة الاشتقاقوقالوا إن الخمر إنما سميت خمرالمخامرتها للعقل فوجب أن يطلق اسم الخمر لغة علي كل ما خامر العقل .

والاشتقاق كما عرفه سيدي عبد الله في مراقي السعود

والاشتقاق ردك اللفظ إليلفظ وأطلق في الذي تأصلا

وفي المعاني والأصول اشترطاتناسبا بينهما منضبطا

ثم إنهؤلاء استدلوا أيضا بأنالوصف المعلل به يثبتباللغةكما يثبت بالنصلأن كل مشروب إذا أسكر سمي خمرافي لغة العرب

قال في المراقي

وهو للغةوالحقيقةوالشرع والعرفي نمي الحقيقة

وقد يعلل بما تركباوامنع لعلة بما قد أذهبا

غير أن الكوفيين تمسكوا بمحل النصوهو الخمر التي من العنب والتمروقالوا إن تحريمها ليس لعينها وإنما لأثرها وإسكارهاولهذا أجازوا الأشربة والأنبذةغير الخمر التي يسكر كثيرها ولكن قليلها لا يسكر .

غير أن القرافيقد فرق بين ثلاثة مسميات متشابهةوقد رتب علي هذه الفروق أحكاما فقهية

هذه المسميات هي المسكراتوالمرقداتوالمفسداتفقال إن المرقدات هي ما أذهبت الحواسكالبصروالسمع والشم واللمس

وأما المسكرات فهي لا تغيب الحواس وتقع معها نشوةقال الشاعر

ونشربها فتتركنا ملوكاوأسداما ينهنهنا اللقاء

وأما المفسد وهو المخدرفتثور فيهطبائعه فإن كان صاحب صفراء تجد له حدةوصاحب البلغم تحدث له سباتاوصمتاوصاحب السوداء تحدث له بكاءوصاحب الدم تحدث له سرورا بقدر حاله .

قال واعتقد أن الحشيشة من المفسدات لا من المسكرات

ثم قال وتنفرد المسكرات عن المرقداتوالمفسدات بثلاثة أحكام : الحدوالتنجيسوتحريم اليسيرفالمرقدات والمفسدات لا حد فيهاولا نجاسة فمن صلي بالبنج او الافيون لم تبطل صلاته إجماعاويجوز تناول اليسير منهافمن تناول حبة من الأفيون جاز ما لم يكن ذلك قدرا يصل الي التأثير في العقل أو الحواسأما دون ذلك فجائز .

 

إشكال وحله

لقد أثار العلامة القرافي فروقا جوهرية بين ماهية الخمر والمخدرتجعل حكم الخمر ليس منطبقا بالكلية علي المخدرومن هنا أجاز الصلاة به وأكل الحبة والحبتين منهويترتب علي ذلك عدم منع بيع وتعاطي القليل منه الذي لا يؤثر علي العقل

و هذا التفريق أدي به إليالتخفيف عن صاحب المخدر وكان أولي به التشديد عليه وإنما أداه إلي ذلك منهجه الاجتهادي المبني علي القياسالتمثيليالذيهو حمل الفرع علي الأصل لاتحاد العلة الجامعة

قال في المراقي

بحمل معلوم علي ما قد علمللاستوا في علة الحكم وسم

وان ترد شموله لما فسدفزد لدي الحامل والزيد أسد

والحقيقة أن الفروق التي بينها القرافي بين المسكروالمفسديجب ألا تعود الي العلة والحكمة من تحريم المسكربالإبطالوهنا ينبغياستخدام مسلك إلغاء الفرقكدليل علي صحة الاستدلال

قال في المراقي

ويعني هذا المسلك أن الفرع إذا لم يفارق الأصل إلافيما لا يؤثر ينبغي اشتراكهما في الحكم .

ينبغي هنا الإقرار بأن قاعدة سد الذرائع لا تسعفنا في الاستدلال علي حرمة منع بيع المخدر لأن الذريعة إذا لم تكن محققة ومباشرة لم يحصل الإجماع علي العمل بها

قال في المراقي

سد الذرائع الي المحرمحتم كفتحها الي المنحتم

وبالكراهة وندبا وردا والغ إن يك الفساد أبعدا

أو ظهر الإصلاح كالأساريتفدي بما ينفع للنصاري

وانظر تدلي دوالي العنب في كل مشرق وكل مغرب

فالعنب وإن كان يؤدي الي الخمر لم يقل أحد بمنع تناوله أو بيعه أو غرسه

هذه إشاكلاتأربكت النظر الفقهي فيما يتعلق بحسم مادة المخدروالموقف من بيعهوإنتاجه وزراعته ؟ ذلك لأن إباحة الحبة والحبتينيؤدي إلي إباحة القليل غير المسكر لمن ينتفع بهسواء كان مسلما أو كافرا ؟

الحقيقة أن استخدام الفقهاء للقياسالتمثلي كأداة للإستدلال هو الذي أدي إلي تعقيد النظر الفقهي في المسألة .

وهذا الإرباك ليس حاصلا فقطفي مسألة المخدر بل هو حاصل أيضا في مسائل أخري منها مثلا مسألة الدخان .

فتحريم التدخين مثلالم يقع الإجماع عليه لأن منهجية الاستدلالعلي تحريمه لا تصمد أمام قوادحالقياسولقد قام العلامة حمداولد التاه في بعض الحلقات التلفزيونيةبنقض القياس المحرم لها بقوادح وقفأمامها المستدل علي التحريمفي حيرة .

قال العلامة حمدا في نقضه لذلك الاستدلالإن القول بأنها حرمت لرائحتها الكريهةغير متفق عليه لان وصفها بالكريهةليس وصفامؤثرا لأن الثوم كريه ولم يقل أحد بتحريمه.

وأما القول بأنها ضارة فالضرر كذلك وصف مشككومن شروطالوصف المعلل به الانضباطفقد رأينا كثيرين استعملوها عمرهم ولم تؤثر عليهم .

وأما القول بأنهاسرف وتبذير للمالفلا تكون تبذيرا إلا إذا كانتحراما ومن هنا يقع الدور وهو من قوادح الدليل .

الشاهد في هذاان القياس التقليديبأركانه الأربعة قال في المراقي

الأصل حكمه وما قد شبها

وعلة رابعها فانتبها

هذا القياس تعتريه القوادحفلا يصمد أمامها في قضايا كثيرة ومنها مسألة المخدرات .

غير أنالقياس الكليالذي هوحملكلية علي نظيرتها أو إرجاع جزئية الي كليةقادر علي استيعاب إشكالات العصروإيجاد حلول شرعية لكل المسائل .

ذلك لأنه تم القطع بوجود كلياتوقع الإجماع علي وجوب حفظهامن جانب الوجود ومن جانب العدموأنهاقصد الشارع في التكليفوهذا الكليات الخمسأو الست هي : الدين والنفس و العقل والمال والنسب والعرض قال في المراقي

دين ونفس ثم عقل نسب

مال الي ضرورة تنتسب

ورتبن ولتعطفن مساويا

عرضا علي المال تكن موافيا

فهذه الكلياتجميعها يؤثر عليها المخدر من جانب الوجود و من جانب العدم فصاحب المخدر قاتل لنفسهومغيب لعقلهومبذر لمالهوهاتك عرض نفسه وأعراض الآخرين.

لقد سمي الشاطبي هذا الدليل بالإستقراء الكلي

قال في المراقي

ومنه الاستقراء بالجزئي علي ثبوت الحكم للكلي

فإن يعم غير ذي الشقاقفهو حجة بالاتفاق

وإذا صح الإستقراءفي المسألةوجب تحريمها ومنع تعاطي قليلها وكثيرها ومنع بيعها والتعامل فيها منعا أشد من الخمربل ربما يكون التعزير في حقها يصل الي أشد عقوبات المحاربينولقد قيل إن الحبس المؤبد نفي وموتكماقال أحدهم:

خرجنا من الدنيا ونحن من أهلهافلسنا من الأموات فيها ولا الأحيا

إذا جاءنا السجان يوما لحاجةعجبنا وقلنا جاء هذا من الدنيا

إن الاجتهاد المقاصدي المبني علي القياس الكليقطعي في الشريعةوهو دليل علي صلاحيتها عبر الزمان والمكان .

وفي مسألة المخدرات نقطع بأن الشارعأراد المحافظة علي كليات كبري وكل ما أدي إلي الإخلال يبعضها أو كلها وجب منعه وتحريمه بحسب ما يؤدي اليه من إفسادومفاسد, وهذا ما أجمعت عليه المجامع الفقهية المعاصرة .

 

بقي في الأخير التنبيه الي أن المخدرات لم تعدفقط مادة تستعمل ولكنها أضحتمصدرا لتمويل شبكات الإرهاب والتطرف سواء كان دينيا أو غير دينيولعل غياب الفهم الصحيحلمقاصدالشرع هو ما سهل علي المتدينينبيعهاوالاستفادة منها في أغراضهم .

والله أعلم

 

صالون الولي محمدن ولد محمودن

5دجمبر 2015-12-05

الدكتور الشيخ ولد الزين ولد الامام