لم أكُنْ أعلم طِوال العُقود الماضية من عُمري المهني، والعلمي، أن حركة “حماس” وجناحها القسّام العسكري، يُشكّل قُوّةً عُظمى أكبر من الصين وروسيا والولايات المتحدة الأمريكيّة، وأنّ قِطاع غزّة الذي لا تزيد مِساحته عن 360 كيلومتر مُربّعًا، وولدت في خيمة في أحد مُخيّماته، تفوق مساحته كندا والاتحاد الروسي وفوقهما البرازيل وأدغالها، لم أكُنْ أعلم إلّا بعد أن شاهدت الرئيس الأمريكي جو بايدن يُقرّر ووزير دِفاعه إرسال حاملة الطّائرات “جيرالد فورد” إلى مِياهه الإقليميّة الضّحلة، مصحوبةً بطائراتٍ وذخائر وصواريخ ومعدّات عسكريّة أُخرى لردع خطره، وحركة “حماس” التي تحكمه، وحماية دولة الاحتِلال الإسرائيلي، ومنع انهِيارها وجيشِها الذي قالوا لنا إنّه الأقوى ولن يُهزَم.
أمريكا دعمت دولة الاحتِلال بمِئات المِليارات من المُساعدات الدّولاريّة، وزوّدتها بأحدث الصّواريخ والمُسيّرات والدبّابات، والطّائرات الأحدث في ترسانتها مِثل الشّبح “إس 35″، ومع ذلك تُرسل حاملة الطّائرات الأعظم لديها لدعم هذه الدّولة العُنصريّة التي باتت تُشكّل عبئًا استراتيجيًّا، وماليًّا، وأخلاقيًّا، على الكاهِل الأمريكي ودافِعي الضّرائب فيه.
***
حتّى نُوضّح الصّورة أكثر، نقول إن هذه الحاملة التي كلّفت وزارة الدّفاع الأمريكيّة 13 مِليار دولار تُعتبر الأكثر تطوّرًا وحداثةً في الأسطول الأمريكي، ويَبلُغ طُولها 335 مترًا، ووزنها 82 ألف طن، وتعمل بالدّفع النووي، وتحمل على ظهرها 75 طائرة، و4460 جُنديًّا، وقادرة على الإبحار 20 عامًا دون الحاجة للتزوّد بالوقود.
هُناك نظريّتان تُفسّران هذه الخطوة الأمريكيّة غير المسبوقة في حوض البحر المتوسّط على الأقل مُنذ 50 عامًا:
الأولى: مُحاولة توفير الحِماية والدّعم النفسي والمعنوي لدولة الاحتِلال بعد الهزيمة الكُبرى والمُهينة التي تعرّضت لها على أيدي “كتائب القسّام” الحمساويّة وحُلفائها مِثل حركة الجهاد الإسلامي، وهي الهزيمة التي أدّت إلى فشلٍ عسكريٍّ وسياسيٍّ واستخباريٍّ واقتصاديٍّ، وأثارت حالةً من الرّعب في أوساط الإسرائيليين، بالإضافة إلى سُقوط آلاف القتلى والجرحى، ووقع المئات في الأسْر.
الثانية: تقول إنّ تحشيد هذه القوّة العسكريّة الأمريكيّة يأتي في إطار خطّةٍ مُشتركةٍ مع إسرائيل لتوجيهِ ضربةٍ إلى إيران، ويتعزّز هذا الاحتِمال من خِلال الحملة الحاليّة التي يشنّها الإعلام الأمريكي وبعض العربي عليها، أيّ إيران، ويتّهمها بالمسؤوليّة عن هُجوم حركة “حماس” الأخير، ونشر تقارير تُفيد بأنّ مسؤولًا عسكريًّا إيرانيًّا كبيرًا التقى قادة الحركة في بيروت، وجرى الاتّفاق على تفاصيل الهُجوم، مُضافًا إلى ذلك أن مُعظم أسلحة الأجنحة العسكريّة في قِطاع غزّة مُصنّعة محليًّا، ولكنْ بتكنولوجيا وتدريباتٍ إيرانيّة.
أمريكا بهذا التدخّل العسكريّ الواضِح وعلى أعلى المُستويات تُؤكّد مُشاركتها في أيّ عُدوانٍ إسرائيليٍّ مُتوقّع يتطوّر إلى جرائم حرب ضدّ أهالي القِطاع، وربّما يترتّب على ذلك العديد من الرّدود الانتقاميّة على هذا العُدوان، سواءً من قِبَل إيران، أو أذرع المُقاومة المُوالية لها، في لبنان وسورية والعِراق واليمن علاوةً على القِطاع والضفّة الغربيّة.
الولايات المتحدة وقِيادتها الحاليّة “لا تشبَع” من الهزائم، وتتمسّك بتِكرار أخطائها في مِنطقة الشّرق الأوسط والعالم الإسلامي خاصّةً في هذا الوقت الذي تخسر فيه حُروبها في أوكرانيا، بعد أن ورّطت شعبها في كارثةٍ سياسيّةٍ واقتصاديّةّ، بل ووجوديّةٍ أيضًا، والبلد أصبح دولةً فاشلة، وجرى سلْخ حواليّ 20 بالمِئة من أراضيه في الشّرق، وشِبْه جزيرة القِرم.
أمريكا لم تُرسل جُنديًّا واحِدًا للقِتال في أوكرانيا، ومن المُستبعد أن تُرسل حاملة الطّائرات “جيرالد فورد” أو غيرها للدّخول في الحرب والدّفاع عن الضّحايا الأوكران المُتورّطين في مُؤامراتها الانتقاميّة من روسيا، والسّبب أنّها دولة “جبانة” لا “تَستأسِد” إلّا على الشّعوب الفَقيرة الضّعيفة، مِثل أهالي قِطاع غزّة المُحاصَرين المُجوّعين.
إسرائيل التي تملك 200 رأس نووي وآلاف الطّائرات الحربيّة والمُسيّرة، ومِئات الدبّابات الحديثة لا تستطيع حِماية نفسها ومُستوطنيها ومُدنها وبلداتها، ولا نعتقد أن الولايات المتحدة وحامِلات طائراتها ستقوم بهذه المَهمّة بنجاح.
آخِر المعلومات تُفيد بأنّ نِتنياهو أبلغ بايدن في المُكالمة الهاتفيّة التي أجراها معه طلبًا للنّجدة، أنه بصدد التوغّل في قِطاع غزّة في غُضون 48 ساعة على الأكثر في مُحاولةٍ للقضاء على حركات المُقاومة بقيادة حركة “حماس”، ووصلت الوقاحة بالجِنرال غالانت وزير حرب تل أبيب إلى وصف أهل قِطاع غزّة بالوُحوش البشريّة، وقرّر قطع الماء والكهرباء وكُل أسباب المعيشة عنهم، وربّما ارتِكاب مجازر مثلما فعل أسلافه في ستّ حُروبٍ على القِطاع كانت حرب عام 2014 الأكثر دمويّةً حيثُ استشهد أكثر من ثلاثة آلاف شخص مِئةٌ منهم من النّساء والأطفال.
***
هذا التدخّل الأمريكي العُدواني الصّلف، وهذه التّهديدات الإسرائيليّة بخنْق القِطاع من خِلال تشديد الحِصار القائِم فِعلًا، لن يقضي على المُقاومة، بل قد يُؤدّي إلى حربٍ إقليميّةٍ تتدخّل فيها قِوى عديدة، قد تُسدل السّتار على شَيءٍ اسمُه دولة إسرائيل.
جَرّ إيران وأذرعها إلى هذه الحرب ليس مُستَبعدًا، وعلينا أنْ لا ننسى أنّ الجِنرال محمد الضيف قائد كتائب القسّام أطلق 5000 صاروخ في السّاعات الأولى لحرب التّحرير انطلاقًا من غزّة، فعلى “إسرائيل” أن تتوقّع عدّة أضعاف هذا الرّقم، وعلى أمريكا أن تتوقّع بأنّ حامِلات طائِراتها قد لا تكون في مأمنٍ، سواءً قُبالة السّواحل الفِلسطينيّة أو في مِياه الخليج وبحر العرب، فالصّواريخ الإيرانيّة والسوريّة والعِراقيّة (الحشد الشعبي) واليمنيّة (صواريخ الفتّاح التي يزيد مداها عن ألفيّ كم)، واللبنانيّة (من الجنوب) في حالةِ جُهوزيّةٍ كاملةٍ هذه الأيّام في إطارِ وحدة السّاحات.
أمريكا وحُلفاؤها الذين انهزموا في العِراق وأفغانستان وسورية، وقبلها فيتنام سيُهزَمون حتمًا في قِطاع غزّة ومِنطقة الشّرق الأوسط برمّتها، وعليها أن تستعدّ لاستِقبالِ أكثر من سبعة ملايين لاجِئٍ إسرائيليّ.. والأيّام بيننا.