إن من أبشع حوادث السيبة، وليس أبشعَها، الحادثة المشهورة التي وقعت بولاية التررارزة، سنواتٍ قليلةً قبل دخول المستعمر إلى البلاد؛ وقد مرَّ رَكبُ الشيخ سيديَ بابَه بأهلها ساعاتٍ بعد وُقوعها (اتفاقا وقَدَرا). فقد اقتحمت مجموعة من الغزاة منزل أسرة مسالمة منتجعة، مشغولة بتسمين (ابلوحْ) إحدى بناتها المراهقات، فلاحظ اللصوص، وهم في عجلة من أمرهم، سوارين من ذهب في معصميْ تلك الفتاة، فحاولوا انتزاعهما بسرعة فلم يُفلحوا، فما كان منهم إلا أن أخرج أحدهم سكينا فقطع بها يدي الفتاة، فماتت من حينها من شدة النزيف، فأخذ اللصوص الحلي وانطلقوا نحو محطة موالية.
وفى ليلة من ليالي "آمشتيل" الحارقة بسَمومها وحرها، جاءت عصابة إلى أسرة قليلة العدد والمال، ضعيفة الحال من كل وجه، ليس لديها من الماء إلا ما بقى فى القِربة، وقد واروه عن الأعين، مخافة أن يُنتزع منهم بالقوة، فيهلكوا عطشا، والمنهل منهم بعيد، والحال شديد، فسألهم كبير العصابة عن الماء، فأخبره الرجل بأنهم يكادون يهلكون من العطش، وأن ابنهم الوحيد سيمُرُّ عليهم بماء زوالَ الغد. فقام المجرم بتفتيش سريع للخيمة، فعثر على القربة غيرَ بعيد من المرأة، فأخذها وشرب، وناول أصحابه البقية، وأمرهم بالانصراف، واغتصب امرأة ذلك الرجل البائس الأعزل! ثم انصرفوا، صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون.
وذات يوم، كان رجلان يرعيان إبلا لرجلين من أعيان المنطقة. وكان أحدهما راعيا تقليديا محترفا. وأما الآخر فهو رجل من فئة الزوايا غيرُ محترف، وإنما اضطره الفقر إلى رعي الإبل مقابل أجرة يعول بها بناته التسع.
وفجأة جاءهما رجل ملثَّم رثُّ الثياب، يتظاهر بأنه راع ينشُد ضالة إبل، فلما أخبراه بما عندهما انصرف. وعند انصرافه نظر الراعي المحترف إليه، فعلِم أنه من حملة السلاح، وأن لا علاقة له برعْي الإبل، وقرر من حينه الفرار بإبله إلى مكان آمن. لكن مرافقَه المسكين لم يقتنع بظنون صاحبه وإلحاحه على الذهاب، فقرر البقاء بإبله في مرعاها إلى نهاية النهار.
أسرع الرجل المحترفُ إلى المركز الإدارىّ الفرنسىّ الأقرب، وأخبر بما شاهد، فأرسلوا معه فرقة مسلحة، لكنها لم تجد شيئا في المكان المذكور، فاقتصوا أثر الإبل وصاحبها، فلاحظوا آثار أصابع قدميه تلامس الأرض وهو مشدود إلى الرحل على ظهر بعير؛ وما لبثوا أن عثروا عليه في مكان ما من "آفطوط"، وقد قتله اللصوص خنْقا وربطوه بعمامته السوداء إلى جذع شجرة.
وبأسلوب روائي معبِّر، يقول الكاتب السياسي محمد يحظيه ولد ابريد الليل: «فإذا كنا نريد أن نرى بأعيننا الفوضى العارمة، والسيبةَ التي كنا نسمع عنها في الماضي، والتي عمَّت... عندما انهار النظام القديم قبل استتباب النظام الاستعماري الجديد (...) يجب أن يسمع المرء هذه القصة التي تحطم القلوب، قصة تلك "الخيمة" البدوية المسالمة التي رواها شهود في حكم الحاضرين، ليدرك فظاعة وهمجية نظام السيبة. فقد اعترض قطاع طرق سبيل الشيخ الأب وأمَتِه في طريقهما إلى البئر، في مكان ما بين نُواذيب ومكطع لحجار، وسلبوهما دون كبير عناء عشرة من الإبل هي كل ما تملكه الأسرة، وأسندوا كل واحد منهما واقفا إلى جذع شجرة، ولفُّوا جسديهما من الرأس إلى القدمين برشاء البئر، وبعد فترة طويلة عُثر على عظامهما بيضاء تحت جذعي الشجرتين، والرشَاءُ ما يزال يلفُّ الجذع كجلاد فظ مقيت وصامد بقوة. أما بقية الأسرة: أمٌّ وبناتُها الأربع، فلم يُعثر عليهن قطُّ،
ولاشك أنهن ما زِلْن ينتظرن منذ ذاك (حوالي 1930) عودة ذويهم والقطيع الذي هو مصدر رزقهم الوحيد... وقد نتصور بسهولة أن هذه المخلوقات الضعيفة كانت صيداً سهلا لقناص الصحراء الرهيب: العطش، الذي يترصد ويقوم بأعمال الدورية باستمرار لصالح "عزرائيل"، وأن أرواحهن البريئة ما تزال باستمرار، وإلى الأبد، تصيح في آذان قتلتهم»[8] .