.gif)
.jpg)
ترجل كبيرا
كانت ليلة من ليالي الصيف المقمرة، في صحراء الجزيرة العربية، هادئة النسمات وادعة الضياء.. كأن كل شيء فيها يسبح في محاريب الفكر والتأمل.
وكان من عادة أبي محمد وهو أسد من أسود الجزيرة أن يستقبل زائريه من أهل الفكر والثقافة، في منتجع بعيد عن ضوضاء الحضارة وينتدب لهم من أصحاب الرأي والمشورة من يثير في نفوسهم لواعج الفكر وكوامن الإبداع.
تبين ليلتها أن الضيف لم يكن عاديا بل كان وهجا من الفكر وشعلة من البيان.. كان شابا أربعينيا يتوقد ذكاء وبصيرة؛ إنه الدكتور عبد الرزاق مقري الذي تحدث عن الجزائر وعن الأزمة والأمة، وعن الحركة الإسلامية.
تحدث الضيف حديثا غير تقليدي؛ عن مسؤولية القيادة، وعن وجوب سيرها إلى الأهداف العليا، منتقدا شعبوية القيادة التي تنساق خلف رغبات أهل العواطف، وهي في نظره جهة التعقل والفهم والخبرة، تبصر قبل غيرها، وتحسن تدبيرا يدرأ المخاطر، ويجلب المنافع، ويوازن بين الشرين ويرجح بين الخيرين.
تكلم عن غياب فقه الدولة في أدبيات الإسلاميين، ثم أردف بأن على الحركة الإسلامية أن تدرك أهميتها لكيان المجتمع والخدمة العامة، وأن البديل عنها هو الدمار المحقق. ثم تحدث عن وقوف حركته وشيخها محفوظ نحناح رحمه الله، مع الدولة الجزائرية مخافة سقوطها، وقال إن الدولة في الجزائر هي نتاج الجهاد والثورة والدماء وليست وليدة انقلاب أو قرار أجنبي؛ لذلك فهي مهمة للثوابت المسطرة في بيان الأول من نوفمبر.
كان أغلب الحاضرين يقفون مع الجبهة الإسلامية يومها ويعددون ما وقع عليها من ظلم. لكن الدكتور عبد الرزاق دافع عن موقف حركته وشيخها بقوة وإقناع، معترفا بأن المواقف المركبة ليست سهلة الفهم بل إنها عصية على الاستيعاب، خصوصا في مجتمعات عاطفية مهزومة، عانت مرارة الخيانات، وسهل على أغلبها التشكيك في النيات.
كانت تلك الجلسة أواسط التسعينيات، وكانت المرة الأولى التي ألتقي فيها الدكتور عبد الرزاق، وأعرف فيها من كثب رجلا من أهل الرأي والفكر، من أرض الأمجاد والمروءات.
ورغم الأثر الإيجابي الذي تركه الدكتور في الحاضرين، وأنا منهم؛ فإن العلاقة معه انقطعت إلى سنة 2003 حينما دخلت الجزائر خائفا أترقب؛ فاستقبلني بعض من خيرة أبنائها وأعيانها، في طليعتهم فضيلة الشيخ عبد الله جاب الله والدكتور أبو جرة سلطاني، والدكتور عبد الرزاق الذي كان يومها رئيس الكتلة البرلمانية لحركة حمس.
حينها أفاض علي أهل الجزائر بما لم أتخيل من الكرم والجود، وحسن الضيافة. وتوطدت العلاقة مع الدكتور عبد الرزاق، ثم كان لنا شرف الصحبة في سفينة مرمرة التي حاولت كسر الحصار الجائر على الأهل في غزة.
كما شاركنا معا في مؤتمرات وندوات وكنا في أغلب اللقاءات نشترك ذات الفكرة وذات الرأي.
وفي سنة 2013 انتخب الدكتور لرئاسة حركة مجتمع السلم، فاستفرغ كثير من جهده ووقته، وكنت أيامها مشغولا أيضا بهموم البرلمان وشؤون العامة، فشغل كل منا عن صاحبه.
كان الدكتور من أكثر القادة الإسلاميين الذين عرفتهم قدرة على إنتاج الأفكار، وشجاعة على النقد الذاتي البناء، مع وضوح الرؤية ونفاذ البصيرة، واتزان النظر؛ فهو يربي جيل الترجيح ويؤلف، ويسافر، ويدير، ويتَّجر.. وهو تكامل قل أن يوجد في أصحاب المراتب القيادية.
أذكر أنه خاطبني يوما، ونحن نتحدث عن مشاكل بعض القادة الإسلاميين: إن الحركة الإسلامية لا يؤثر فيها غير القائد (الاول .
لذلك على أصحاب الرأي أن ينشغلوا بعمل ميداني يبعدهم عن دائرة الصراع ويشعرهم بالإنجاز؛ فالحياة فسيحة لمن يعمل والفرص فيها متعددة.
ويوم سمعت من بعضهم، غفر الله له، أن الدكتور ينوي التمديد لنفسه وأن هناك تسويغا قانونيا لذلك، زوّقت في نفسي نصيحة محكمة، وبدأت حديثي مستفسرا عن الجانب القانوني، فأجابني بحدة قائلا - حتى ولو كان، فإنني لا أريد التمديد (نمشِ اكبير ياصاحبي) الحركة ملأى بالقادة وأهل الرأي، ممن يستحق المواصلة وفيه الكفاية. أما أنا فذاهب إلى اهتماماتي الشخصية لقد فرطت في كثير منها وعلى العودة والاستغفار.
يصر كثير من القادة، رغم إنجازاتهم في مختلف مراحل حياتهم، على التشبث بالقيادة حتى النهاية؛ فيدخلون في صراعات وحروب تهدم ما بنوا وتشوه ما شيدوا، ولو أنهم انتبهوا لتلك الجملة الذهبية للدكتور عبد الرزاق مقري؛ لذهبوا كبارا!
يخرج الدكتور عبد الرزاق مقري، من قيادة الحركة اليوم، وهو في قمة عطائه الفكري والسياسي متألقا بإنجازاته وأخلاقه وتواضعه، وسيظل في المقدمة مفكرا وطبيبا ومرشدا في عالم محتاج لمن يعطي سالما من الأنانية والعقد ولغة الصراع.
محمد غلام الحاج الشيخ
