المعلقات، القصائد الذهبية البارزة لشبه الجزيرة العربية قبل الإسلام، ألَّفها شعراء بارعون مثل امرئ القيس، الملك المتجول. وطرفة، الشاب الباحث عن اللذة، وزهير الأخلاقي، وعنترة، الفارس الأسود، البطل الرومانسي الذي يشبه هيثكليف، بطل رواية «وذرنج هايتس»، ولبيد المعمّر الذي شارف على المائة، وغيرهم. لماذا يجب أن نهتم بقراءة أشعارهم ودراستها؟
حسناً، دعني أجلس على مقعدي المفضل، وأستمتع برشفات من القهوة العربية بالهال، وأوضّح هذه النقطة: إذا كنت تتخيل الأدب العربي كمنزل، فستكون المعلقات هي الغرفة الأولى التي تدخلها، ستذهلك بميزاتها غير العادية، وتصميمها الداخلي المخصص مع الاستعارات الجذابة، والتشطيب بأسلوب أنيق، وبلاط مع تشبيهات رائعة تشبه السيراميك، وورق حائط مملوء بصور الكثبان الرملية، وخيام مهجورة شاهدة على حب ضائع، وإبل تجتر في صمت، وخيول وظباء تنظر إليك بعيون ساحرة كحلتها الطبيعة. وبغض النظر عن جمالياتها ومتعة قراءتها، فإن هذه المعلقات هي مصدرنا الرئيس لعالم العرب ولغتهم في العصر الجاهلي، ومن دونها سنجد قدراً كبيراً من الصعوبات في فهم كثير من الأدب الإسلامي المبكر.
منذ سنوات نشرت كتاباً بعنوان «من المعلقات إلى الـ(فيس بوك)». لتقديمه دعني أسأل هذا السؤال: هل بين المعلقات والـ«فيس بوك» قواسم مشتركة؟ إذا دققت في الأمر فستجد أن هذه القصائد (المعلقة) قبل الإسلام ستذكرك برسائل Facebook وتغريدات ومدونات معاصرينا. تأمّل إيحاءات فكرة «تعليق»، كما في تعليق قصيدة على جدران الكعبة في شبه الجزيرة العربية في القرن السادس، (كما يُفترض أن العرب القدماء فعلوا)، وفكرة «نشر/ بوست» نص مكتوب على Facebook أو Twitter، كما نفعل الآن. في كلتا الحالتين القديمة والحديثة تكمن حاجة الإنسان للتواصل والبث والتعبير عن الأفكار.
وربما يسألني أحدهم: متى صادفت المعلقات لأول مرة، وما الذي أعجبك فيها، ولماذا؟ كان ذلك على ما أذكر في السنة الأولى في المدرسة الثانوية في الإسكندرية. هنا يجب أن أعترف بأن المعلقات المختارة يومئذ في كتاب الوزارة لم تكن جذابة أو مفهومة بالنسبة لنا. تذكر أننا كنا أطفال المدينة، وأن الحياة الصحراوية للجمال والكثبان الرملية والغزلان والمخيمات المهجورة للأحباء السابقين، لم يكن لها صدى بالنسبة لنا. يمكنك القول إن البيئة الثقافية بأكملها للمعلقات كانت إلى حد ما غير جذابة لنا. كانت ثقافتنا ثقافة نهرية، ثقافة مائية. كان النيل هو المايسترو الذي يقود سيمفونية حياتنا. فلقد سيطر النيل دائماً على إيقاع الحياة والثقافة في مصر. كانت وفرة المياه، والحقول الخضراء الشاسعة، وغيطان القطن، وأشجار التوت، والساقية، هي المناظر الطبيعية لعالمنا. أدّى ذلك إلى سيادة النظرة الثنائية بين ثقافة النهر وثقافة الصحراء، الوفرة مقابل الندرة، النضارة مقابل العطش، وهذه النظرة استمرت لفترة من الوقت.
وبعد أن تخصصت في الأدب الإنجليزي، وقرأت الترجمات الإنجليزية للمعلقات، وبعض الدراسات الغربية عنها، بدأت أقدّر المعلقات واستمرئ طعمها في فمي عند قراءتها جهراً. ومنذ سنوات عدة عندما أتيت من أميركا الشمالية إلى الإمارات، أستاذاً جامعياً، بدأت أستمتع برحلات السفاري، وأجواء الصحراء باتساعها وصفائها وسكونها في عتمة الليل، والذي كان يمنح المرء شعوراً بالحرية والامتداد.
في إحدى العواصف الرملية في الشارقة، كانت هناك نخلة صغيرة كنت ألحظها وأتأمّلها عند ذهابي وإيابي، وبعد يوم واحد من عاصفة رملية عنيفة، رأيت تلك النخلة مقطوعة ومدفونة تحت كومة من الرمل. انخلع قلبي كأنني رأيت طفلة جريحة تئن دون أن يعالج أحد جراحها. كانت لحظة فارقة جعلتني أتفاعل مع الطبيعة حولي، وأشعر بقربي من محيطي الجديد.
• «وبعد أن تخصّصت في الأدب الإنجليزي، وقرأت الترجمات الإنجليزية للمعلقات، بدأت أقدّر المعلقات، واستمرئ طعمها في فمي».
باحث في قسم لغات وحضارات الشرق الأدنى بجامعة هارفارد الأميركية
ر:
كمال عبدالملك