الاختصاص القضائي العالمي مفهوم شاع في العقود الأخيرة مع طغيان العولمة، والتوسع في الحماية الجنائية لحقوق الإنسان..
يعني هذا المفهوم بإيجاز اسناد اختصاص جنائي عالمي للقضاء الوطني في الدول، بحيث يمكن له النظروالبت في جرائم معينة وقعت خارجها، ومن أشخاص غير مواطنيها، ولا يقيمون على أراضيها، بحق غير المواطنين أيضا، خروجا على قواعد اسناد الاختصاص التقليدية، القائمة على مبدأ إقليمية القانون، وذلك بهدف عدم السماح بالإفلات من العقاب لمنتهكي القانون الدولي الإنساني..
لم يكن هذا الاختصاص جديدا بالكلية، فقديما سمحت بعض التشريعات للقضاء الوطني في بعض الدول بتناول جرائم محددة مثل القرصنة وتجارة الرقيق، لكن الجديد فيه هو التوسع الذي عرفه ليشمل جرائم تعاقب عليها اتفاقيات دولية مثل التعذيب، والجرائم ضد الإنسانية، وذهبت بعض التشريعات ـ في مرحلة من المراحل ـ أبعد من ذلك ليشمل الاختصاص العالمي طبقا لها جرائم يعاقب عليها القانون الوطني فقط..
حظي بروز مبدأ عالمية الاختصاص القضائي بمفهومه التوسعي الجديد بدعاية كبيرة، وترحيب واسع من طرف منظمات ودعاة حقوق الإنسان..
بيد أن هذا المبدأ تعثر سريعا، ولا يزال في الواقع ترفا قانونيا بعيد المنال بسبب جملة من العقبات السياسية والقانونية، ولا تقدح في هذا القول حالة منفردة كحالة الرئيس التشادي السابق حسين هبري، المحاكم حيث يقيم اختيارا، مجردا من أي حصانة، على ما تثيره محاكمته من ضجيج قانوني..
من أكبر العقبات التي واجهت هذا المبدأ، أن الدول الغربية المتعصبة رياء في الغالب لقيم حقوق الإنسان، والتي ولد المبدأ من رحم تنظير نخبها الحقوقية، لا تقيم في الحقيقة وزنا لتلك القيم إلا بقدر تماشىها مع مصالحها السياسية والاقتصادية..
فمع أن دولا عديدة منها أقرت في تشريعاتها مبدأ عالمية الاختصاص القضائي، إلا أنها كثيرا ما التَفَّتْ على المبدأ في المستوى السياسي تغليبا لمصالحها الذاتية..
كانت بلجيكا من أكثر الدول توسعا في مبدأ عالمية الاختصاص القضائي، ابتداء من سنة 1993 حيث سمح تشريعها الوطني للقضاء بنظر وقائع مفترضة في دول أخرى لمجرد أن القانون البلجيكي يجرمها، زيادة على تلك التي يجرمها قانون دولي..
وفي الوقت الذي حُرِّكَتْ فيه دعاوي من هذا القبيل ضد أفارقة وأشخاص من أمريكا اللاتينية، بحماس كبير تفاجأ دعاة حقوق الإنسان بتراجع "الفسحة" القانونية البلجيكية بمجرد محاولة رفع دعاوي مماثلة ضد مسؤولين إسرائيليين في مقدمتهم السفاح الهالك شارون، لتتراجع بلجيكا تدريجيا عن المبدأ بتعديلات عديدة، ثم انتهت إلى الغاء المقتضيات الأصلية مبقية على ظلال منها، بعد محاولة تحريك دعوى ضد الرئيس الأمريكي الأسبق بوش الأب، وذلك إثر التهديد بسحب مقر حلف النيتو من بروكسل..
لا يصطدم هذا المبدأ برياء الغرب وازدواجية معاييره، وتغليب دوله لمصالحها السياسية والاقتصادية فقط، بل يواجه عقبات قانونية، ومادية، منها:
ـ أن القضاء الأجنبي وفقا لهذا المبدأ يبقى قضاء تكميليا فحين تقوم الدول التي وقعت داخل مجالها القانوني وقائع رفعت على أساسها دعاوي أمام قضاء أجنبي بمحاكمة الأشخاص المدعَى عليهم خارجيا تسقط الدعوى أمام القضاء الأجنبي، تطبيقا لمبدأ عدم جواز ازدواجية المحاكمة عن نفس الأفعال مرة أخرى، ولمبدأ تقديم القضاء الطبيعي لكل شخص..
ـ أن رفع دعاوى أمام قضاء دولة ضد مواطني دولة أخرى لن تكون له قيمة في ظل منع القوانين الوطنية لتسليم المواطنين خارج الحدود، ولما تمثله المحاكمة الغيابية الأجنبية من خرق لمبدأ الحضورية الذي هو مبدأ أساسي من مبادئ المحاكمة العادلة..
ـ أن رفع دعاوى قضائية بعيدا عن مكان ارتكاب الوقائع المفترضة، يقوض جمع أدلة الإثبات، بما فيها سماع الشهود، والضحايا المفترضين، وهو ما تستحيل معه الإدانة..
ـ عجز المخصصات المالية المرصودة في الأصل لتحقيق العدالة الوطنية ـ على حساب دافعي الضرائب ـ عن تغطية التكاليف الباهظة لدعاوى قضائية عابرة للحدود..
في ضوء الواقع الحالي لمبدأ عالمية الاختصاص القضائي يبقى رفع أي دعاوي استنادا إليه، في أي مكان من العالم مجرد إثارة لغَبَرَةٍ إعلامية مناسباتية، تنجلي غَيَايَتُهَا بسلامة مَرْبَعٍ..