خلال مشواره، كان الفنان التشكيلي التونسي حسين مصدّق (1968 - 2022) على مسافة من مسالك الثقافة الرسمية، فقد حاول أن يكون أقرب إلى مشاغل الحياة اليومية للناس ينقلها إلى اللوحة، كما يفرّ من هذه الأخيرة إلى محامل أخرى منها التصميم الغرافيتي، وفن الأوريغامي، ويظلّ أبرزها الجدران وقد وجد فيها، خصوصاً بعد 2011، فضاء قريباً من أطروحته الفنية.
رحل مصدّق عن عالمنا أوّل من أمس، وقد سارعت وزارة الثقافة إلى نعيه بالكلمات التالية: "تنعى وزارة الشؤون الثقافية، بكل حسرة وأسى، الفنان وكاتب عام نقابة مهن الفنون التشكيلية حسين مصدّق الذي وافته المنية فجر اليوم السبت 12 فيفري 2022. والرّاحل هو من مواليد سنة 1968 في مدينة غمراسن بالجنوب التونسي، له تجارب فريدة في الفن التشكيلي تجاوزت المحلية ليكون أحد أبرز الفنانين التشكيليين الفاعلين في العالم العربي، ويرتبط بشكل كبير بمناخاته الشرقية التي تبرز جليّة في ما يقدم من أعمال فنية. ويتمّيز الفقيد بجمعه لعدة مواهب إلى جانب الرّسم، فله تجارب في التصوير الفوتوغرافي والإخراج والتصميم الغرافيكي. وبهذه المناسبة الأليمة تتقدم وزارة الشؤون الثقافية بأحر عبارات التعزية إلى عائلة الفقيد حسين مصدق وإلى كافة الأسرة الثقافية والإبداعية راجية من الله تعالى أن يتغمّده برحمته الواسعة ويلهم أهله وذويه جميل الصبر والسلوان".
أثار البيان انتقادات تتعلّق بصيغته الروتينية خصوصاً لكون وزارة الثقافة لم تكن طرفاً مُسانداً للفنان خلال مشواره. في هذا السياق نشرت الكاتبة التونسية سميحة المسعودي تدوينة جاء فيها: "ليس من حق وزارة الثقافة نعي الفنانين لأنّ الفنان أعظم من مجرد فقرة يكتبها إداري بلاستيكي لم يقف يوماً أمام لوحة، ولأنّ حسين مصدّق عندما احتاج دعماً لم يُنصَت إليه". وتضيف: "إن كان قدر الفنان في تونس العيش بطريقة لا تحفظ كرامته فعلى الأقل اتركوه يرحل وأنتم صامتون. وزارة الثقافة التونسية لا تلتفت إلى الفنان إلّا لتقول كلمات الوداع الرخيصة التي يكرهها المبدعون".
وكتب الشاعر عادل المعيزي: "كلّ شيء أصبح مريباً في بلادي وأوّلها الموت! أشعر بمؤامرة كبرى ضدّنا نحن الكائنات الأثيريّة... في واحد من أيّام الخريف الماضي المحاط بأسلاك من القلق كنت مارّاً بنهج ابن خلدون واتّفق لي أنّ أمرّ على دار الثقافة وكان دأبي حين أشعر بالعزلة أن أستأنس بالكتب والمسرح والسينما والفن بوجه عام. وهناك وجدتُ صديقي حسين مصدّق رفقة معرضه ينتظر لجنة لا تأتي. شاهدتُ في لوحاته التعبير الأسمى عن الشعور الإنساني في مواجهة مصيره في هذا الزمن الغامض وخُيّل إليّ أنّ لوحاته كانت معلّقة على حبال المشانق".
من جهته، أضاء الإعلامي محمد المي زاوية أُخرى من علاقة الجحود بين الوزارة والفنان، من خلال مقال نشره في مدوّنته بعنوان "موتك كان منتظراً… لكنّي لم أصدّق"، مما يقول فيه: "زادت لجنة اقتناء الأعمال الفنية في إرهاقك عندما رفضت إدارة الفنون التشكيلية اقتناء عملك وأنت الذي لا مورد لك إلّا ما تقدّه أصابعك، وهذه مشكلة العديد من الفنانين الذين يعيشون ممّا تصبغه أناملهم على القماش الأبيض الشبيه بأكفان الموتى. انسحبت من تعاونية الفنانين التي ساهمتَ في تأسيسها احتجاجاً على طريقة سيرها وكيفية عملها وطبيعة المتدخلين فيها. تفرّق مَن حولك في نقابة مهن الفنون التشكيلية بعد أن أنقذتها من براثن من طوّعها لخدمة نفسه".
تشير حدّة هذه التدوينات إلى حنق يسكن علاقة المجتمع الفنّي بوزارة الثقافة، وبشكل عام مع سياسات الدولة في هذا القطاع. وإذا كان حسين مصدّق قد أخذ بخياراته الإبداعية مسارات بعيدة عن هذه السياسات فها أنّ رحيله يُظهر بشكل بارز حجم القطيعة بين الفنان والدولة، ومن هنا نفهم خياره ذات يوم لمغادرة اللوحة إلى الشارع، دون أن ننسى تجربته في فن الأوريغامي، والتي وظّفها للتعبير عن مأساة الهجرة غير الشرعية عبر نقل عناصر بصرية من لوحاته إلى زوارق ورقية. من المفارقات الدالة أنّ هذه المأساة تضرب في نفس تربة السياسات الفاشلة التي همّشت مصدّق ودفعته للمغادرة كما عشرات الشباب الحالم بحياة أفضل.