وسط الطبيعة الساحرة، تحمل ملكة مسلمة أفريقية سيفها وتخوض معارك عديدة دفاعا عن مملكتها. تتنوع مشاهد المعارك ما بين ظلام الليل الدامس وأخرى تكسوها زرقة شاعرية هي لون السماء لتسيطر على المشهد، حيث لا يظهر من الجنود سوى أشباحهم وهي تقاتل بالسيوف. الملكة من قبيلة زاريا التي تقع اليوم في نيجيريا، وهي أول امرأة مسلمة تحكم بلدا أفريقيا لأكثر من 3 عقود خلال القرن الـ16. ويستلهم فيلم "الملكة أمينة" قصة حياة هذه الملكة الحقيقية ويعرضها على شبكة "نتفليكس" (Netflix) من إنتاج عام 2021 للمخرج النيجيري إيزو أوجوكو. وهو أحد مظاهر الحضور السينمائي النيجيري الذي صعد بشدة خلال السنوات الماضية.
السينما النيجيرية أو ما يطلق عليها نوليود أصبحت هي الأكبر في العالم بعد صناعة السينما الأميركية المعروفة بهوليود من ناحية كثافة الإنتاج والدخل. وإذا كان العرش الأميركي في السينما قد استمر لسنوات طويلة، فمن المفيد أن نفهم كيف صعدت دولة أفريقية ذات أغلبية مسلمة إلى المركز الثاني في صناعة السينما متجاوزة السينما الهندية بوليود.
أولا؛ إن السينما النيجيرية تقدم خلطة فنية جذابة استطاعت فيها أن تقدم شكلا جديدا من السرد السينمائي الذي يمزج بين خصوصية الثقافة الأفريقية واللغة السينمائية باستخدام تقنيات حديثة؛ منها ما هو أوروبي ومنها ما هو أميركي. ولهذا شقت نوليود طريقها وسط قارة أفريقيا باعتبارها معبرة عن الهوية الأفريقية الجامعة في شقين أحدهما فني والآخر تحرري، إذ ينظر كثير من المخرجين العامليين في نوليود إلى ما يقدمونه من أعمال فنية كأداة مقاومة للاستعمار الثقافي الغربي. ولهذا ليس غريبا أن يتجاوز الإقبال على أفلام نوليود في الدول الأفريقية المختلفة أفلامَ هوليود الأميركية.
ثانيا؛ إن رعاية الدولة وإدراكها لأهمية هذا الصناعة مثّل جانبا مهما من انتعاش الإنتاج السينمائي في نيجيريا، إذ تقوم الحكومة بدعم هذا القطاع بسخاء منذ عام 2006 حتى أصبحت صناعة السينما والموضة تسهم بنحو 1.8 مليار دولار من الناتج المحلي الإجمالي في البلاد وتسعى الحكومة لأن تكون الصناعات الإبداعية بديلا اقتصاديا للنفط مستقبلا. لكن لا بد من التذكير من أن طريق نوليود ليس مفروشا بالورود بسبب مشاكل كثيرة منها القرصنة وتسريب الأفلام. ولهذا فإن نجاح السينما النيجيرية يعد إنجازا ثقافيا ساهمت فيه عدة عوامل لا تقف أو تنحصر في الجانب الاقتصادي فقط. وهو نجاح دعا منصات مثل "ديزني بلس" (Disney Plus) و"أمازون برايم" (Amazon Prime) و"نتفلكيس" للمضي قدما بخطى سريعة لإيجاد موطئ قدم وتقديم إنتاجات في عالم بوليود؛ لمواكبة هذا التطور الحاصل في السينما الأفريقية. وهو تطور وصفته مجلة "هوليود ريبورتر" (Hollywood Reporter) بقولها إن العام الحالي 2022 هو العام الذي ستأخذ فيه هذه المنصات أفريقيا بجدية بعد سنوات من التجاهل
الثقافة من عائق إلى حافز
لم يقف حاجز اللغة عائقا أمام انتشار السينما النيجيرية على الساحتين الأفريقية والعالمية، إذ يكفي أن نعرف أن هناك أكثر من 300 لغة في البلاد من بينها اللغة الإنجليزية، وأن نوليود تقدم أفلاما بعدد من هذه اللغات. لكن النيجيريين استطاعوا أن يحولوا تفاصيل الخصوصية الثقافية لديهم إلى رصيد إيجابي أصبح قوة ثقافية في العالم على حد تعبير اليونسكو.
إن الثقافة النيجيرية بوصفها جزءا من الهوية الأفريقية تتجلى في أفلام مثل الفيلم النيجيري "حفل زفاف" للمخرجة كيمي أديتيبا؛ حيث تتبدى مظاهر ثراء الطبقة الغنية في نيجيريا بشكل يتناقض مع الصورة النمطية عن الدول الأفريقية كدول فقيرة ذات نزاعات وحروب، وهي صورة دأبت وسائل الإعلام على نشرها في نشرات الأخبار. ويتناول هذا الفيلم قصة شاب ثري يتزوج امرأة من طبقة اجتماعية أقل، وفيه تتبدى الملابس والإكسسوارات المتنوعة بالإضافة للموسيقى والأغاني المحلية. والملابس والأغاني في هذا المقام ليست مجرد عنصر سينمائي وإنما صناعة متكاملة نشأت بالتوازي مع صناعة السينما النوليودية، ورسخت أقدامها بسبب الترويج لها عبر الأفلام السينمائية وأصبحت في مقدمة صادرات البلاد.
وفيلم "حفل زفاف" الذي يعرض على نتفليكس أيضا هو واحد من أشهر إنتاجات نوليود، وقد أغرى نجاحه المنتجون لإنتاج جزء ثان منه. وتتجلى فيه تفاصيل المجتمع النيجيري والتنوع الطبقي والعرقي في البلاد.
إن تأثير نوليود في أفريقيا يشبه تأثير السينما المصرية في العالم العربي قبل التراجع الذي شهدته السينما المصرية خلال السنوات الماضية. وهو تأثير يثبت أن الهويات الثقافية عابرة للحدود والقوميات بطبعها. ولهذا فإن تعبير السينما النيجيرية عن الروح الأفريقية المعاصرة هو تعبير مهم ينبغي الاهتمام به عربيا على صعيد العرض والتوزيع وأيضا على صعيد المهرجانات السينمائية لعدة عوامل؛ أولها أن الهوية الأفريقية تلتقي مع العالم العربي في شمال القارة الممتد من البحر الأحمر في مصر وحتى ضفاف الأطلسي في المغرب وصولا إلى الصومال والسودان وموريتانيا جنوبا، وتحمل هذه الهوية قيما اجتماعية وثقافية مشتركة كثيرة. والعامل الثاني هو أن أكثر من نصف سكان نيجيريا مسلمون، وأفلام بوليود تعبر عن هذه المجتمعات بشكل يتقاطع مع تاريخ وثقافة العالم العربي والإسلامي. والعامل الثالث هو أنها تجسيد لفكرة التعايش بين الأديان المختلفة والتعبير عن آمال التحرر والتعبير الثقافي عن الذات وهي قيم يحتاج العالم العربي أن يراها سينمائيا.
هاني بشر