خلال الأيام الماضية ومع اشتداد الحصار الذي فرضته منظمة "السيداو" على مالي كان واضحا لكل متابع للأزمة أن الأنظار في باماكو تتجه نحو نواكشوط لاعتبارات جيوسياسية معروفة، فموريتانيا تكاد تكون الدولة الجارة الوحيدة التي لم تعش أزمات مع مالي في السابق، كما أنها -مع الجزائر وغينيا كوناكري- تشكل محور الدول الثلاث المحيطة بباماكو التي لم تنخرط في الحصار، إلا أن أيا من الجزائر وغينيا لا تمكنها مساعدة مالي كثيرا، فالأولى ليست لديها موانئ قريبة من باماكو، كما أن المشكل الذي يعيشه إقليم أزواد الواقع على حدودها الجنوبية يحد من حجم الاستفادة المالية من التوريد عبرها، أما كوناكري فرغم أن ميناءها الأقرب إلا أن تضاريسها الجبلية الوعرة تحول دون الاستفادة منها هي الأخرى، وعقدة الحصار المؤذية للماليين تتجلى في جانبه البري بالأساس. تبقى نواكشوط العاصمة الأهم التي بيدها كثير من مفاتيح الحل بحكم موقعها الجغرافي القريب نسبيا، وتموقعها السياسي الذي يؤهلها للمشاركة الفاعلة في حل الأزمة، فعلاقاتها جيدة بأغلب الأطراف المؤثرة في الملف كالإتحاد الأوروبي (فرنسا بالأساس) والجزائر والسيداو.
الفرص الضائعة
طيلة السنوات الأخيرة ظلت موريتانيا تسعى لتطوير محور نواكشوط -باماكو، محاولة بذلك الاستفادة من عائدات اترانزيت التي تدرها واردات الدولة الحبيسة التي يقترب سكانها من العشرين مليونا، والتي تستفيد منها بشكل رئيسي كل من دكار وأبدجاه، كما تستفيد منها بدرجة أقل كل من: أكرا وكوتونو ولومي وبانجول، وهذه الموانئ الأربع الأخيرة ليست لدولها حدود مشتركة مع مالي، لكنها أكثر استفادة من نواكشوط رغم القرب والحدود المشتركة، أما من ناحية التبادل التجاري فتعتبر السنغال الشريك التجاري الأهم لباماكو (أغلب الإسمنت المستخدم في مالي مستورد من السنغال) وبفارق كبير عن بقية الدول بما فيها الصين وفرنسا وتركيا وساحل العاج، وتظل موريتانيا الجار الأضعف استفادة من السوق المالية. نظريا قد تعطي الاعتباراتُ الفنيةُ المحضة أسبقيةً لموانئ لداكار وأبدجاه.. على ميناء نواكشوط، فالبنية التحية المينائيةُ والطرقية عندنا قد لا تكون جاهزة لاستعاب زيادة كبيرة بشكل فجائي، لكن تحديا كهذا يُمْكن العمل على تجاوزه، كما أن ميزات عديدةً لدينا يمكن استغلالها واستثمارها بشكل أفضل. أما وقد جاءت الأزمة الحالية فإن موريتانيا مطالبة بالتفكير بعقلانية تؤهلها للاستفادة من اللحظة دون أن تبدو وكأنها ظهير لباماكو على حساب المنظومة الدولية والإقليمية، وهو ما يتطلب بناء استراتيجية متكاملة تسعى لإقامة شراكة فعلية تطوِّر التبادل التجاري القائم، وتُحقِّق التكامل الإقتصادي الذي يضمن استثمارالإمكانات والقدرات التي يتمتع بها البلدان، ويمهّد لمشاريع استثمارية كبرى بما فيها إقامة منطقة تبادل حر ستكون مردوديتها كبيرةً على الطرفين معاً.
العملية الغادرة.. من المستفيد؟
ما إن جف الحبر الذي وُقّعت به الاتفاقيات المشتركة بين الوزراء الموريتانيين ونظرائهم الماليين حتى بدأت الأنباء تتواتر عن وقوع عملية غادرة راح ضحيتها سبعة موريتانيين عزلاً داخل الأراضي المالية، تتواتر الأنباء أن مجموعةً تتبع للجيش المالي نفذتها، مما خلف حالة من الغضب لدى الموريتانيين خاصة في المنطقة الحدودية، وهو غضب مشروع وطبيعيٌ لمن فقدوا فلذات أكبادهم، لكن السؤال الذي يتبادر من عملية كهذه هو: من المستفيد؟ ولماذا في هذه اللحظة؟
لا يجادل أحد في أن السلطة المركزية في باماكو لا تُحكم سيطرتها على مناطقَ واسعة من مجالها الجغرافي، خاصة في مناطق الشمال والوسط بما فيها الحدودُ الموريتانية، وأنها ليست الفاعل الرئيسي فيما يحدث في تلك المناطق، بل إن أطرافا دولية ومحلية أكثر سيطرة على الأرض - وربما الفضاء- من السلطات المالية، كما أن أيّ متابع حصيف يدرك بطبيعة الحال أن ليس من مصلحة مالي افتعال أزمة مع موريتانيا في هذه اللحظة بالذات، فمن المستفيد إذن؟
هذا بطبيعة الحال لا يعني دفاعا عن الجيش المالي ولا تبرئةً لساحته، بل إن أحداثا كثيرة ارتكبها ضد الموريتانيين يتضح في الغالب أنها بفعل الرعونة وسوء التقدير، وحسنا فعل النظام الموريتاني بإيفاده بعثه وزارية لباماكو بهدف الوقوف على أسباب العمليةِ الغادرة ودوافعها والتنبيه على عدم تكرارها في المستقبل، وهو شيء طبيعيٌ لأي سلطة ترعى مصالحَ مواطنيها وتدافع عن حرماتهم وحقوقهم..
في المحصلة ينبغي على الدولة الموريتانية أن تعمل على مسارين اثنين: أولهما تحديد المسئولين عن استهداف مواطنيها ومعاقبتهم على جرائمهم بحق الموريتانيين، والحصولُ على ضماناتٍ تحول دون تكرارها في المستقبل، أما المسارُ الثاني فيتمثل في لعب دور أساسي وفعال في الأزمة المالية الحالية يمكّنها من المساهمة في الوصول لتسوية تجنب الماليين شبح الجوع والفوضى، وتمكنهم من إنجاز انتقال ديمقراطي سلس،
كما تحقق لموريتانيا بعض المصالح التي طالما سعت لها في هذا البلد الجار والشقيق، وبذلك تحوز الحسنيين معا.
محمد الأمين ولد القاسم