أنا لا أقول الحرفَ نثراً..
ولا أسمع للصوت صدى.
تتفلَّتُ كلماتي من بين الغيوم.
وترفضُ الاصطفاف في نسق.
بهذه الأبيات يفتتح التشكيليّ والشاعر السوريّ عبد الرزاق كنجو ديوانه الجديد "خبز وزيت"، ليضع القارئ أمام كلماتهِ التي ترفض الاصطفاف في نسق، معلنا منذ البداية تمرّده على النسقيّة والتقليديّة في الشعر العربيّ.
فبعد عقود أمضاها فنّاناً متنقّلاً في أسفاره لا يتصل والمتلقّي إلّا من خلال الصور البصريّة للوحات، وجدَ كنجو نفسه -في عقده الخامس- مستسلما لغواية الصورة الأدبيّة التي أبدع في تكوينها.
ويأتي ديوان "خبز وزيت" في 248 صفحة من القطع المتوسِّط، وتتنوَّع موضوعات قصائده بينَ الفكريّة التأمّليّة والإنسانيّة والمجتمعيّة السياسيّة المستوحاة من المأساة التي يقاسيها الشعب السوريّ منذ عقد ويزيد.
سراقب.. عنوان للوجع والحنين
يسيطر العنصر المكانيّ على شعر كنجو، فيكتب عن حلب "اسق العطاش في حلب" وحمص "حمص الوعر" ودمشق قصائد بديعة، تتباين فيها المشاعر الوجدانيّة بتباين موضوعاتها؛ فمن الفخر والاعتزاز بعبق تلك المدن وعراقة تاريخها إلى الإيمان العميق بنصر أهلها على ظالميهم:
أسدلوا الشاش الأبيض
أمام وجه العروف كي لا تخطف النظر
أبعدوا عنها الوشاح الأسود.
فقد مزّقنا الحزنُ..
واكتوى برماده العقلُ..
وأنسانا السمر.
….
سيفي المثلوم.. نام بغمدهِ..
لم يعد يقدح ومضات الشرر.
….
حمصيّة الوعر في هودجها..
فارس الزيتون يستقبلها..
يفرش السجّاد في ساحاتها
وتذرف العيون دمعاً مدمّى..
يحجبُ البصر.
ولكن تبقى أجمل القصائد تلك التي تفيض حنيناً إلى سراقب -مسقط رأس الشاعر- المدينة التي هُجِّرَ أهلها مع بداية الحرب السوريّة جرّاء القصف الوحشيّ التي تعرَّضت له:
سأخلعُ نعلي على عتبات التيه..
والتشرّد، والنزوح. فانثري لي حفنةً من ترابك
وعفّريني بها للتيمّم.
…
فقد وازنت ما بينها _طُهراً_
وبين تلك الرقراقة.. في زمزم.
….
قد جئتك البارحة قبل اليوم..
لأقيم فيك صلاتي..
مُستدركاً مُستغفراً.. فاعذريني
إن أتممتُ عمرتي هناك..
وجئتك بإزار الحجّ الأبيض .. أفرشه على
عتباتكِ مصلّاة..
لأسقِط لديك الفريضة.
فبعدَ أن اغتربَ كنجو عن سراقب طوال سنوات الدراسة والعمل بينَ حلبَ وإدلب وبلغاريا وصوفيا وغيرها من المدن والدول، قرَّر أن يعود إلى سراقب، "فإذا كنتِ زيتاً وخبزاً في صباحاتك الساطعة.. أنا لكِ الزعتر".
ولكنَّ الحرب حالت بينه وبين تحقيق رغبته تلك، فيقول كنجو للجزيرة نت: "في كلّ سفر كنت أقتطع من الزمن المحدّد لأعود إلى مدينتي وأرضي ومزرعتي.. ولم أعرف سبب هذا الحنين إلّا بعد أن ذُقت مرارة وذلّ التهجير القسريّ الذي حدث مؤخرا لشريحة كبيرة من الشعب السوريّ وأنا منهم".
النصرُ
إلى جانب العنصر المكانيّ المهيمن، يبرز النصر "ثيمة" رئيسيّة لديوان "خبز وزيت". فعلى الرغم من إدراك الشاعر هول المأساة وكمّ الانكسارات التي عاشها ويعيشها الشعب السوريّ، فإنّه لا يعيد إنتاجها شعريّاً إلّا ليؤكِّد على حتميّة النصر، كما في قصيدة "وعد الله الحقّ":
أصدق من ساعة رمليّة..
وأكرم من غيوم الشتاء..
(..)
"محمَّد" يعرجُ نحو السماء..
ويسري إلى مائدة "اليسوع".. واقفاً
يباركُ "العشاء".
فأهلاً بالحامل والمحمول.
وعدٌ..
لن يكون في الأرض _بعدها_ بؤسٌ..
وجوعٌ أو شقاء..
….
وليشهد الله.. والفقراء بعدَ نزوحهم
ومن صار في بطون الأسماك..
والسجين المغيَّب.. عن أهله..
وأرواح أرواحنا.. الشهداء:
إنااااا لمنتصرون.
وتتلو قصيدة "وعد الله الحقّ" نصّيّاً قصيدة "همالايا" التي ما هي إلّا تأكيد نصّيّ على نصر الشعب السوريّ على ظالميه مهما تجبّروا، كنور متوهّج في آخر نفق مظلمٍ:
صرخة المظلوم خلف التغييب..
والقهر أعتى..
من تراكم كثبان الرمال الحارقة
أو انهيال الجلاميد..
من جبال البراكين..
فوق أمواج البحار العاتية.
….
وما النصر -يا دهر-
إلّا صبر يومٍ.. وساعة.
وعن هذا الإيمان العميق بالنصر، يحكي كنجو للجزيرة نت: "لقد تربّينا على حبّ الوطن ونسيجه الاجتماعيّ والمعتقد الدينيّ الحرّ بلا تشدّد أو إكراه، والحرب كابوس مؤلم مرّ على البلاد ونتمنّى ألّا يطول وتعود الأرض السوريّة لأهلها مطهَّرة من الاحتلالات الأجنبّية، وأن يعود النازح والمهاجر والمهجّر قسراً إلى بلاده الآمنة".
خبز وزيت.. حين تحني الحروف رقابها
يتبع كنجو على مستوى الأسلوب في "خبز وزيت" الشعر الحداثيّ؛ فتتسم القصائد بإيقاعٍ كثيف وموسيقى عذبة تنمُّ عن فرادةٍ شعريّة تؤكّدها اللغة الرمزيّة، والإحالات التاريخيّة ذات الدلالات العميقة التي يسوقها كنجو، ليعيد من خلالها قراءة أحداث الأمس القريب، كما الحال في قصيدة "ظلال الخيام الباردة" التي يرثي فيها لحال السوريين مخاطبا مدينتهُ، ثمَّ يستدركُ فيقول لها:
أطعميني من حلّة الجوع.. بعدَ أن تغلي الحجارة..
واحجبي السرَّ عن "ابن الخطّاب".. لئلّا يوصِّدني ويجلدني..
إذا أنا.. ما أعدتُ الكرّة.
………………..
فأنا من ذاكَ.. حتَّى..
وإن شابنا غزوٌ وقحطُ وتشرّدٌ.
أو تفرّقنا نزوحاً لبعيدٍ..
أو صعوداً للمجرَّة.
ثمَّ يخاطب كنجو عمر بن الخطّاب راجياً:
خُذ يدي مملوءة.. ممّا معي..
واعطني من ودِّك الموروث.. وصلاً..!!
وأزل من صدريَ المأزوم..
حسرة.
وعن أسلوبه ذاك، يقول كنجو: "حتّى إن لم تكن تجربتي في الكتابة أتت بشكل القصيدة الكلاسيكيّة، إلّا أنَّني أحرص دائماً على التفعيلة الموسيقيّة قدر المستطاع. كما أنَّ اطّلاعي على بعض الترجمات للشعر الغربيّ قد أغنى محاولاتي في التمرُّد على شطر القصيدة من حيث الإطالة أو الاختصار، لكن أعتمد على القفلة للفكرة متأثّراً بالشاعر الكبير عمر أبو ريشة وأمثاله من كبار الشعراء".
ويضيف: "لذلك لا غرابة إن وجد القارئ مفرداتي تنوس وتتأرجح بين النثر والشعر أحيانا، لأنَّ الهدف الأوَّل والأخير إخراج الفكرة وإيصالها للمتلقّي بأبسط الصور. كما أسعى دائما لانتقاء أبسط المفردات المفهومة ولن أحيج القارئ لمقطوعاتي للرجوع إلى القاموس العربي أبدا".
ولأنَّ قصائد كنجو مرتبطة وجدانيّاً بالشعب السوريّ وقضاياه، فإنَّه يكتبُ واصفاً نفسه وشعره:
أنا لا أقرض الشعر
ولا أعمل بهِ..
فلا الإسهاب ينقذني
ولا الكلام المختصر.
محوت كلّ حرف كتبتهُ..
وبماء البحر.. اغتسلت
وتطهَّرت.. تحت ميزاب المطر.
…..
لا يفيد النيام في الخيام.. غِناء.
ولا ينفع الموتى رثاء.
ولا يُشبع الجوعى بديع الكلام..
ولا جميل الصور.
تأبى حروفي الاصطفاف في نسق.
تحني رقابها.. خجلاً
ويأبى الكلام.. نُطق الكلام.
حزناً وقهراً وضجر.
وهكذا تحني حروف كنجو رقابها خجلاً من مأساة السوريين حيناً، وتثور غاضبةً على ظالميهم أحياناً، ولكنّها تظلُّ على إيمانها بالنصر دائماً.