تصنف (شعوب البحر) كرواية تاريخية، وإن كانت تمزج في بنيتها ما بين الوقائع التاريخية والفنتازيا. ولعل الأمر المدهش والخارج عن المألوف في الرواية، هو قيام مؤلفها جاك دمبسي بإعادة صياغة تاريخ شعوب البحر، على نحو جديد وفريد، مخالف تماماً للموروث والتقليد.
يركن التاريخ في حديثه عن شعوب البحر إلى مصدرين رئيسيين هما التوراة والآثار الفرعونية القديمة. أسفار التوراة تحقر كثيراً من شعوب البحر، فتعتبرهم همج وبرابرة وغزاة ووثنيين متخلفين، أيضاً جداريات ورسومات معبد رمسيس الثالث، بمدينة هابو، تحقر هي الأخرى من القيمة الحضارية لشعوب البحر، إذ تصورهم على أنهم أشرار وهمج وغزاة.
هذا ما يرفضه جاك دمبسي ويدحضه بقوة. فهو يرى أن شعوب البحر كانت في غاية الرقي والتحضر، وكانت تشتمل في صفوفها فنانين مرهفين وحكماء وعلماء وفلاسفة وحرفيين مهرة. هنا ينحاز دمبسي في رأيه هذا إلى الكشوف الأثرية والدراسات العلمية والنتائج المخبرية، ولا يميل البتة إلى تصديق التلفيق والتشويه التوراتي بحق شعوب البحر.
البطل في هذه الرواية هو كاهن كريتي عاش زمن الحضارة المينوية. وقد تولى طيلة فصول الرواية، مهمة سرد الأحداث التي كان هو جزءاً منها وشاهداً عليها. فقد كان مهاجراً في واحدة من موجات الهجرة التي قامت بها شعوب البحر باتجاه ساحل كنعان.
هاجرت شعوب البحر باتجاه أغلب سواحل شرق المتوسط، إلا أن شهرتها ارتبطت أكثر شيء بساحل كنعان، ربما لأن التوراة سلطت أضوائها على هجرة شعوب البحر إلى ذلك الساحل بالذات. أيضاً أسبغت شعوب البحر أحد أسمائها المهمة على ساحل كنعان، فتسمية (فلسطين) الحالية مشتقة من (بوليساتي) وهو اسم قبيلة أو شعب من شعوب البحر.
لقد شهدت أواخر العصر البرونزي وبواكير العصر الحديدي عدداً من موجات الهجرة من جزر بحر إيجة باتجاه ساحل فلسطين. ولم تحدث تلك الهجرات من فراغ أو بدافع السياحة والترفيه. إنما حدثت بشكل قسري، وبسبب عدد من العوامل، أبرزها الانفجار الرهيب لبركان ثيرا، وموجات تسونامي العنيفة التي أعقبت ذلك الانفجار، وكذلك حدوث العديد من الكوارث الطبيعية والزلازل، إضافة إلى سقوط كنوسوس (أقدم مدينة أوروبية على الإطلاق) نتيجة تعرض كريت لغزو الموكيانيين.
نزل مهاجرو شعوب البحر على ساحل فلسطين، وتحديداً ساحلها الجنوبي الممتد من يافا حتى رفح، وتفاعل أولئك المهاجرين مع سكان فلسطين الأصليين من الكنعانيين. ومع مرور الأجيال والقرون، ذاب أبناء شعوب البحر في النسيج الفلسطيني، فكانت لهم بصمتهم الواضحة وحضورهم الكبير، وأضافوا لوناً زاهياً جميلاً إلى الفسيفساء الحضاري الفلسطيني.
أبداً لم يكونوا برابرة متوحشين كما تحاول التوراة أن تصورهم، إنما كانوا بناة حضارة، مسالمين ومهذبين. لقد لجأوا لفلسطين فارين إليها من أتون الجحيم والنيران المستعرة في كريت وباقي جزر إيجة، ولم يأتوا أبداً لأجل العدوان وإرهاب الفلسطينيين الأصليين الآمنين في أرضهم.
يؤكد دمبسي عبر روايته، أن التوراة لم تكن يوماً مصدراً موثوقاً للتاريخ، بل هي أحد أهم مصادر تشويه وتزوير التاريخ. وينادي بضرورة رفع الظلم التاريخي الواقع على شعوب البحر، وضرورة إعادة كتابة التاريخ إجمالاً، على أسس علمية مهنية رصينة، خالية من الأهواء والخرافات والأحقاد.
في النهاية نختتم مع صورة الغلاف، فالصورة التي تزين غلاف الرواية الأمامي، هي لزهرية جميلة، صنعتها أيدي البوليساتي في عقرون (عاقر) وسط فلسطين. وفي هذه الصورة رمزية ودلالة على الدور الحضاري الكبير الذي لعبته شعوب البحر في تشكيل التاريخ الفلسطيني القديم والكينونة الفلسطينية الأزلية.