في زمن كثرت فيه الأعمال الأدبية التي تستلهم مادة سردها من الخيال، يقدم الدكتور والكاتب السوري سيف الدين الأتاسي عملا أدبيا أشبه بالسيرة الذاتية يستعيد من خلاله ذكريات وصورا واقعية عايشها عبر 5 عقود من الزمن بلغة بيضاء خالية من التكلف وأسلوب رشيق يحفز القارئ على المضي قدما بـ"درب الريح".
ويأتي كتاب "درب الريح" -الممتد إلى 150 صفحة من القطع المتوسط والصادر حديثا عن دار موزاييك للدراسات والنشر- الثاني في الترتيب بعد كتاب "شخابيط على الجدران" الذي أصدره سيف الدين الأتاسي هذا العام (2021).
و"درب الريح" خليط من الذكريات التوثيقية لأحداث وشخصيات مهمة ومؤثرة في تاريخ العرب المعاصر، والذكريات الذاتية المعاشة لكاتبها في 5 مدن عربية وأوروبية، ما يجعله كتابا غنيا ومتنوعا في موضوعاته ومقاصده ما بين التأريخ والأرشفة وما بين السرد الذاتي عن التجربة الشخصية.
حصار العراق.. حين تكون الإنسانية بحاجة إلى ضمائر حية
يستهل الكاتب مذكراته التوثيقية بمشاهدات أليمة للعوائل العراقية في بغداد حيث الفقر والاحتياج مطلع تسعينيات القرن الماضي إثر إصدار مجلس الأمن القرار رقم 661 الذي تضمن عقوبات اقتصادية شاملة على العراق.
ويرى سيف الدين أن القرار كان انتهاكا صارخا لميثاق الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان؛ حيث أدى إلى نقص حاد في الغذاء والدواء والخدمات الأساسية للشعب العراقي، فضلا عن تمهيده الطريق لقرار مجلس الأمن رقم 986 الذي نص على برنامج مذكرة التفاهم؛ النفط مقابل الغذاء.
ويعتقد الكاتب أن مذكرة التفاهم تلك كانت "بمثابة فخ نصبه البريطانيون والأميركيون ووقعت فيه القيادة العراقية السابقة"؛ حيث جعلت تلك المذكرة الأمم المتحدة تنظر إلى العراق بوصفه "مخيما للاجئين لا أكثر ولا أقل".
وفي ظل الحظر الجوي المفروض على العراق تقرر مجموعة -يسميها سيف الدين في الكتاب بمجموعة "الأمل" وهو واحد من أعضائها- إطلاق أول رحلة جوية مدنية من مطار شارل ديغول في باريس إلى مطار صدام حسين في بغداد بهدف "كسر الحظر ورفع الروح المعنوية لشعب أنهكه الحصار".
وكان للمجموعة ما أرادت، حيث تمكنت منظمة "فاونديشن ماي" (Foundation may) الفرنسية من تنظيم هذه الرحلة الجوية على متن طائرة حطت بمطار بغداد في 22 سبتمبر/أيلول 2000، وضمت وفدا من الأطباء والفنانين والرياضيين الفرنسيين على رأسهم رئيس المنظمة المهندس الفرنسي اللبناني جهاد الفغالي والدكتور سيف الدين الأتاسي.
وعن شعوره في تلك اللحظات والهدف من الرحلة يقول سيف الدين الأتاسي للجزيرة نت "لاشك في أني شعرت يوم الرحلة بالفخر لأنني كنت في طاقم المنظمين وكان الأطباء المرافقين عاينوا العديد من المرضى واختاروا العديد من الحالات للعلاج في فرنسا، ولم يكن للرحلة أية أهداف غير العمل الإنساني وفتح المجال لهدم الحصار الجوي المفروض على الشعب العراقي".
واستطاع الوفد الفرنسي -بعد معاينة المرضى وزيارة وزارة الصحة وتسليط الضوء على شح التجهيزات الطبية في المشافي وغيرها من الفعاليات- أن يشارك في مهرجان بابل وأن يقدم أعضاؤه أداء فنيا راقصا كنوع من التضامن مع الشعب العراقي وسط تصفيق حار على منصة المسرح الأثري في مدينة بابل.
شخصية من زمن مضى
نبقى في بغداد؛ حيث يلتقي الكاتب بالقيادي في منظمة التحرير الفلسطينية محمد العباس "أبو العباس أو أبو خالد"؛ ذلك الرجل "النبيل الذي اقتحم الحلبة السياسية والعسكرية الفلسطينية اقتحام الإعصار".
وعن أبي العباس وكواليس لقائهما في بغداد، يقول سيف الدين للجزيرة نت "جمعتنا الأقدار في ليل بغداد تحت الحصار، حيث العدد المحدود من الأصدقاء الذي يقضون لياليهم سوية، وأردت في الكتاب أن أسلط الضوء على أبي العباس لأني اكتشفت الجانب الإنساني المضيء من حياته النضالية من حبه للقراء والاستماع للموسيقى وتربية الأولاد، تلك التفاصيل الإنسانية التي تساعد القادة في التغلب على الصعاب".