على الرغم من صدور مذكرات التاجر الدمشقي بدر الدين الشلاح (أبو راتب) منذ سنوات طويلة، إلا أنّ أوراق الرجل ورسائله التي وضعها في كتابه لم تلق القراءة الكافية، بوصفها مصدرا غنيا عن مدينة دمشق، وعن أحوال عائلة دمشقية، بدأت أعمالها في خان صغير، ثم أرسلت أولادها للدراسة في أرقى الجامعات الغربية، قبل أن يعودوا ويلعب بعضهم دوراً في الحياة والسياسات الاقتصادية السورية، على مدى العقود الماضية، ولاسيما ابنهم الاقتصادي السوري راتب الشلاح.
كما تبدو هذه المذكرات غنية على صعيد ما تنقله، فالتاجر أبو راتب، كما عرف في السوق، لا يظهر من خلالها مجرد شاب عمل في أحد أسواق دمشق في تجارة الخضروات، وإنما يكشف أيضا في فترة الستينيات عن اهتمام غريب بتدوين يومياته، مما وفر لنا مادة غنية عن تفاصيل لا تتعلق بالحياة السياسية السورية في القرن العشرين، كما درجت عليه عادة مذكرات السوريين بعد النصف الثاني من القرن العشرين، بل نراه يبدي اهتماما أكبر بحكم عمله، بتدوين أحوال أسواق دمشق، وأيضا واقع الزراعة في هذه المدينة، وأحوال تجارة الخضروات، ومن كان يدير هذه التجارة في أربعينيات وحتى ستينيات القرن العشرين، إضافة إلى نقل صور عديدة عن أوضاع السوريين، خلال الحربين العالميتين، التي عاش تفاصيلها ودوّن عنها بعض النقاط.
وربما كان المؤرخ السوري سامي مبيض قد أعاد بعض الاهتمام بهذه المذكرات أثناء إعداده لكتابه حول الماسونية في دمشق، إذ نقل فيه بعض صور «الحجي» مرتديا لباس الماسونيين، مع ذلك. فإن مذكراته تكشف عن جانبين نظن أنهما بحاجة إلى دراسة أوسع، الأول يتعلق بالأسباب التي تدفع بشخص لم يكمل دراسته (وصل إلى الاعدادية) إلى الاهتمام بتدوين يومياته وذكرياته لاحقاً، (سنعثر على تفصيل صغير عن ذلك، عندما يشير إلى أنه لم يترك في أيامه كتابا يتناول ذكريات أحد السياسيين إلا وقرأه) أما الثاني، أن هذا التاجر سيبدي حرصا على التدوين والتأريخ، رغم إدراكه أنه ليس مؤرخا، لكن ذلك ل يثنه عن ترك وثائق غاية في الأهمية عن حياته وحياة أولاده.
كما أن اللغة التي كتبت بها هذه الذكريات مثيرة للاهتمام، فللوهلة الأولى قد يظن القارئ أن الرجل قد استعان أثناء تدوينه لهذه المذكرات بأحد الأدباء، (يبدو أن هذا قد جال بخاطره في فترة الستينيات عندما كتب وصيته لأبنائه طالبا منهم الاستعانة بأحد الأدباء لإكمال مذكراته في حال توفي (سيعيش إلى عام 1999) كما أن هناك من ذهب إلى أنه استعان بصديقه الأديب السوري نجاة قصاب حسن لتحرير ما كتبه، لكن قسم الرسائل الذي تركه لنا، يكشف، من خلال ما دونه الأب بأسلوب واحد، من أن الرجل كان يمتلك مهارات جيدة في الكتابة والقدرة على ترتيب الأفكار، ويبدو ما يسرده أنها لم تكن وليدة الدراسة، أو قراءة المذكرات فقط، بل أيضا وليدة العيش في دكان والده، وتدوين حسابات العائلة، ما يذكرنا بملاحظات المؤرخة نيللي حنا وبيتر غران حول دور التجارة وتطورها في التأثير في الثقافة وبنية الكتابة واللغة، وفي حالة الحجي، يذكر أن والده وبعد ارتكابه لأحد الاخطاء أخذ يطلب منه يوميا تدوين أحوال تجارتهم لتحسين خطه، وهو ما يعني أن هذا التاجر كان يتدرب على الكتابة، لكن في حقل التجارة وتدوين حسابات العائلة وملاحظات حول عملهم، خاصة في ظل توسع هذا العمل، لكن هذا لا ينفي موضوع تأثره بذكريات السياسيين، وقد يكون هذا الموضوع بمثابة فرصة لإجراء مقارنة مثلا بين ما كتبه الشلاح في الستينيات (وبالأخص الرسائل) وأسلوب سياسي ومثقف عاش في فترته وترك لنا عشرات الرسائل، وأعني هنا فخري البارودي، أو مذكرات قصاب المحرر كما قيل (مع أن مذكراته كتبت بأسلوب يختلف عن أسلوب الشلاح) ولعل هذه المقارنة تبين بعض نقاط الاشتباك والتوافق على مستوى الكتابة والهموم أيضا، وإن بدا لنا أن هذه الفترة لن تعرف ما ستعرفه سوريا لاحقاً من شرخ واضح على مستوى اللغة والهموم (اللغة الحزبية لدى أكرم الحوراني مقارنة باللغة التي دوّن بها البارودي مذكراته).
حوليات الأهل والأقارب
يقال عادة إن التاجر الدمشقي لا يكشف عن حساباته وخططه، ويظهر في الغالب رجلاً محافظاً، يفصل عالمه الأسري وقصصه عن عيون وألسنة الآخرين، لكن في مذكرات الشلاح نرى خلاف ذلك، إذ نعثر على خلافات عائلية أحيانا (بينه وبين والده) أو مع اخوته حول بعض الشراكات التجارية، وأعود هنا لملاحظات نيللي حنا، حول كتابات العامة في مصر العثمانية، فهي تلاحظ أن تراجع الدور السياسي للإمبراطورية قد انعكس أحيانا على مستوى الكتابة، لننتقل من تدوين يوميات الإمبراطورية إلى كتابات تعنى بتدوين اليومي وأحوال الناس العاديين، كما يتضح في الحوليات الشامية العثمانية. ويبدو أن هذه الموجة من تدوين اليومي ستتوسع أكثر في سوريا مع بدايات القرن العشرين، خاصة مع الشعور بثقل الزمن، سواء لأسباب سياسية، أو حتى لظهور تأثيرات الحداثة بشكل أوسع، وهذا ما نراه مثلاً من خلال قاموس الصناعات الشامية للعالمين الجليلين محمد القاسمي وابنه الإصلاحي جمال الدين، الذي دونا فيه تفاصيل عن أكثر من 300 مهنة قبل أن تزول، ولذلك لا نعرف هل كان اهتمام الحجي أبو راتب بتدوين ملاحظات حول حياته الأسرية، وبدايات تشكل بعض الأسواق (سوق الهال) نابعا بالأساس من تقاليد في الكتابة السورية تشكلت في القرون الأخيرة، وأولت أهمية أكبر باليومي؟ أم رغبة بالهروب من الحدث السياسي لصالح الحدث اليومي؟ كما يلمح الشلاح في أحد صفحات ذكرياته، عندما يذكر أنه جمع ملاحظاته حول الواقع السياسي اليومي منذ العشرينيات وحتى الستينيات، لكنه في عام 1966 قرر حرقها، وهو العام ذاته الذي ستشهد فيه سوريا صراعات بين رفاق الأمس، وسيمثل منعطفاً جديدا في الحياة السياسية السورية. لكن عدم الاهتمام بالسياسي بحكم عمله، لم يجعل مذكراته تخلو من بعضها، وبالأخص في ما يتعلق بفترة الاتحاد مع مصر، في حين يعود لاحقاً لانتهاج رؤية أخرى مع السياسة، كما نرى عبر ملاحظتين يدونهما، الأولى تتعلق بتعريفه للسياسة، فهو يرى أن هذا العمل ليس مقتصرا بالضرورة على الأحزاب، بل السياسي هو الشخص الفاعل في المجال العام على صعيد التجارة والعمل، وربما في هذا الكلام ما يربطنا أكثر بما قيل لاحقاً عن الشوام، خلال أحداث الثمانينيات، وعدم رغبتهم حتى في انجرار المعارك لدمشق بعد 2011، لأنهم يرون أن نشاطهم أو ما هو مسموح لهم يتمثل في بعض المؤسسات مثل الأوقاف وغرف التجارة، بما يضمن لهم وجودا وحصة من البلاد، أما الملاحظة الثانية التي تظهر رؤيته للسياسة وحدود دوره في هذا المجال، عندما يأتي على ذكر تاج الدين الحسني، الذي عينته فرنسا رئيسا للحكومة في فترة الانتداب، وما كتب عنه لاحقاً أنه مندوب لهم (عميل بالتعابير القومية) بينما يرى أن الحسني كان شخصية وطنية تتعامل مع الأمر الواقع، بالإضافة لذلك فقد كان نظيف اليد، حتى أنه كان يقترض بعض الأموال من والده (سليم شلاح) وبالتالي تغدو السياسة هنا هي فن الواقع (مجاراة نظام الأسد الأب والابن) والتقوى (التركيز على العمل الخيري) كبديل عن المساهمة المباشرة.
وفي الحوليات التي يدونها هذا الرجل، نعثر على خصوصية أخرى تتعلق بقصص السوق وأحوال الزراعة في مدينة دمشق وما حولها وبعض الصناعات، لتشكل إضافة مهمة على هذا الصعيد، فمثلاً يخصص الحاج فصلا كاملا عن المشمش في دمشق، مثل المشمش العربيني والسندياني والوزي والتدمر والكلابي، كما يتناول بالتفاصيل التطور الذي جرى على مستوى صناعة قمر الدين، والمراحل التي مرّ بها من اليدوي حتى المكننة. وربما من القصص الغريبة في هذا الشأن ما يذكره عن وقوفه في إحدى المرات على منبر الجامع ليخطب بالناس حول ضرورة زراعة نوع معين من المشمش، وفي هذه الحادثة التي يذكرها، دون أن يحيطها بشيء من الغرابة التي يشعر بها قارئه اليوم، يبدو أن منابر دمشق كانت أكثر قربا باليومي وبالسوق وأحواله آنذاك، وربما هذا ما جعلها فاعلة إلى يومنا، على مستوى تقديم الخدمات وجمع المساعدات. كما يأتي على ذكر واقع الزراعة في مدينة القامشلي خلال الخمسينيات، وهنا يسجل لنا تفاصيل غنية عن صورة المدينة في تلك الفترة وفنادقها، مقارنة بمدينة الحسكة التي بدت عبارة عن قرية صغيرة، كما يذكر لقاءاته ببعض التجار السريان وأيضا بالشيخين دهام الهادي (شيخ قبيلة شمر) ومحمد عبد الرحمن (شيخ قبيلة طي) وأيضا يأتي على ذكر معلومة تتعلق ببنائه هو وأخيه لجامع الشلاح، الذي سيبقى أحد المعالم الرئيسية للقامشلي حتى نهاية التسعينيات تقريبا، قبل أن تتوسع لاحقا المدينة وبالأخص في السنوات العشر الأخيرة.
رسائل مع راتب وإخوته
من أهم الفصول في المذكرات، تلك التي يقرر فيها الوالد نشر الرسائل التي كان يتبادلها مع أولاده، ممن سافروا للدراسة في الخارج، ولن نبالغ إن قلنا إن هذه الرسائل تصلح لتشكيل أطروحة، كونها من ناحية تكشف عن لغة التجار الدمشقيين أو قسم منهم، وأيضا عن طبيعة تطور العائلات الدمشقية في هذه الفترة، وبالأخص على صعيد التعليم، كما أن الفترة التي تشملها الرسائل (1954) إلى نهاية الستينيات تعج بالإشارات عن واقع سوريا، وعن واقع البلدان التي ذهب إليها أولاده وأولاد أخيه.
الطريف أيضا في هذه الرسائل إنها تقربنا من أحوال الابن التاجر الدمشقي المعروف راتب الشلاح، وأوضاعه في فترة الستينيات وبداياته، وهي بدايات يبدو أنها تختلف عن السيرة الرسمية التي دونت عنه ويدونها الوالد أيضا في مجمل حديثه عن أبنائه، قبل أن يعود في رسائله ليكشف لنا عن جانب آخر. ففي السيرة الرسمية لراتب الشلاح مثلاً نكتشف أنه شاب مجتهد درس في أكسفورد ثم التحق بإحدى الجامعات الأمريكية لإكمال أطروحة الدكتوراه حول السياسات النقدية السورية، قبل أن يعود للتدريس في كلية الاقتصاد في جامعة دمشق لسبع سنوات، وليفتتح بعدها مكتبا في بيروت ويدير أعماله من هناك، ومن ثم ليتحول إلى أحد أهم لاعبي الاقتصاد السوري في زمن الأسد وابنه (تراجعت قليلاً) لكن رسائل الأب تكشف عن واقع آخر، مختلف تماماً، ولذلك فهي مدعاة للاهتمام؟ أولى الرسائل بتاريخ 27 /11/1954، سيبدأ الوالد بعبارة ستتكرر لاحقا في مقدمة كل رسائله تقريباً «ولدنا.. وفقه الله آمين.. بعد تقبيل وجنتيك» وسنرى من خلال تواريخ باقي الرسائل، أن الوالد كان يرسل رسالة كل شهر تقريبا، وهذا ما كان يفعله ابنه راتب بالمقابل مع تأخره بعض الشيء أحيانا، لكن في الرسالة الثانية بتاريخ 27/11/1954 يبدو راتب غير الصورة التي رسمت عنه لاحقا، فهو يعاني في الدراسة كما يظهر، كما سيطالب الأب في رسالة أخرى بتاريخ 28/1/1955 ابنه بعدم اليأس في الدراسة، وأنه يعرف أن السفر كان امتثالا لأوامره، كما يبدو من خلال الرسالة أن راتب لم يكن يرغب بإكمال رسالة الدكتوراه، ولذلك يلح على ابنه بضرورة الحصول عليها، للتعويض عن حرمان والده من التعليم، لكن مع استكمال قراءة الرسالة نجد أن أسباباً أخرى تقف وراء رغبة الأب (غير عقدة الصغر) وهي أن الدكتوراه آنذاك كانت تتيح لحاملها الحصول على وظيفة كبيرة، ولذلك يذكر له مثلاً أن صديقه أحمد السمان كان يتقاضى ثلاثة آلاف ليرة سورية، بينما كان رئيس الجمهورية يتقاضى ألفي ليرة، كما نرى أن هناك سبباً آخر لهذه الرغبة، إذ يذكر لولده «أن بلادنا مقبلة على نهضة اقتصادية، وهناك عدة مشاريع قيد التنفيذ مثل مرفأ اللاذقية وشركة الكهرباء ومصرف سوريا المركزي، ومن يمارس أعمالا حرة يجب أن يكون مشتركا في عضوية عدة إدارات، ليكسب اسما تجاريا وعلاقات (لا يذكر هذه الكلمة في الرسالة) ويكشف كلام الأب هنا عن رغبة فعلاً أو إدراك بتغير طبيعة عمل العائلة والسوق في دمشق، وانتقاله من تجارة الدكان لمفهوم آخر للتجارة يقوم على الشراكات الكبيرة في البلاد، فالسوق يتوسع وكان يتطلب أدوات ومهارات جديدة لا يمتلكها جيل الآباء، ودونها لا يمكن استمرار إرث العائلة.
تنقطع الرسائل أحياناً في المذكرات، لتعود بعد ذلك بعام، وهنا يطالب ابنه راتب ولاحقا باقي أولاده بتدوين كل ما يشاهدونه، وأيضا بجمع كل الرسائل ووضعها في ملف خاص، ما يعني أن هناك ربما مذكرات أخرى غير مذكرات الأب، لعلها كتبت لكنها لم تنشر إلى يومنا هذا، لكن في هذه الفترة سيكون محور الحديث بين الاب وابنه الزواج، ومن خلال عدة رسائل (رسالة بتاريخ 6/5/1956) يبدو أن الابن بدأ يفكر بالزواج، وهنا يظهر الوالد متفهما ومدركا لهذا الجانب، مع ذلك يحاول أن يساير ابنه، ويدعوه للتركيز على دراسته وتدوين يومياته في أوقات الفراغ، لكن هذه اللغة ستتغير مع تكرار الرسائل وإلحاح ابنه، ما سيدفع الحجي إلى التأكيد في إحدى رسائله على أن الزواج بأجنبية هو عقوق للوالد وأيضا للوطن! لكن يبدو أن الشاب بقي مصراً على موقفه، ما سيدفع الوالد إلى «اعلم أننا لا نوافق على زواجك بأجنبية» مع ذلك لا تبدو أن العلاقة بين الأب الدمشقي وابنه علاقة بطريركية بالضرورة، وإنما تكشف عن نقاش مستمر بين الأب وابنه، وأيضا عن حدود لهذا النقاش، خلافاً لصورة المسلسلات الدرامية التي تظهر صور الابناء الخاضعين فقط، وبكل الأحوال يبدو أن الأب سيوافق لاحقا على مضض على زواج ابنه من فتاة من أصول دمشقية وذات حسب، ويعمل والدها مستشارا للملك عبد العزيز بن سعود، في إشارة للشاعر السوري (أنور العطار) وقد شيع جثمان هذه الزوجة في عام 2019 (سلمى أنور العطار). ويبدو أن سفر الاولاد لم يؤد إلى وجود زواج خارجي، وظل الزواج الداخلي (من دمشقيين) هو السائد خلافاً مثلا لحال عائلات عربية أخرى مثل عائلة الحاج هاشم الجمال البيروتية (التي درسها نادر سراج) إذ تزوج الأبناء من بلدان أخرى خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية، في حين تبدو العائلات الدمشقية في الستينيات أكثر إصرارا على فكرة الزواج من الداخل! وفي رسائل أخرى، يأتي أبو راتب مع أولاده على مناقشة عادات الأمريكيين في الحرية والطعام وغيرها من المسائل.
يذكر أن الحجي جمع كثيرا من رسائله وملاحظاته على أمل تسليمها كما يقول لمركز الوثائق التاريخية في سوريا، ولا نعرف مصير هذه الرسائل، وإن كانت قد وصلت فعلاً، وعن رسائل راتب ويومياته التي دونها، أو لعلها غدت محلاً للنسيان كما هو حال عشرات الوثائق الأخرى في هذا المركز.
محمد التركي الربيع
كاتب سوري