ضربتني هجمات 11 سبتمبر 2001 في صميمي بعد أسبوعين من وقوعها. اكتويت بلهيبها في وقت لا زالت تشتعل نيرانها ويتصاعد غبارها ودخانها من مقر “المركز التجاري العالمي”. وكانت أمريكا تحصي ضحاياها والرئيس بوش يزبد ويعربد ويهدد ويتوعد .. والعالم يحبس أنفاسه لمعرفة ما ستؤول إليه الحرب الأمريكية المعلنة على الإرهاب. في هذا الوقت الحرج بالذات رنّ هاتفي في وقت متأخر من الليل.. ألقيت نظرة سريعة على شاشة التلفون فإذا بالمكالمة من شخص بالولايات المتحدة الأمريكية. بعد التحية قال لي بصوت حزين: أبلغكم مع الأسف بخبر اعتقال ولدكم الشيخ ماء العينين ولد بلال اليوم على يد مباحث الف.ب.آي وشرطة الهجرة. والأمر بالتأكيد على صلة بأحداث واشنطن.
ابني الشيخ ماء العينين بالغ من العمر يومها 20 عاما.. ذهب إلى أمريكا يراوده ما يسمى “بالحلم الأمريكي” : العمل والحرية وفرص النجاح والسعادة في بلاد “العم سام”.. هاجم رجال الشرطة شقة يسكنها مع أصدقائه وفتشوها من الألف إلى الياء وشتتوا ومزقوا ما بداخلها..وكان الولد غائبا عن المدينة ساعة قدوم الشرطة. ولما أبلغ بوصول المباحث عاد فورا و سلم نفسه… في البداية كانوا 40 من الموريتانيين رهن الاعتقال. قيل لهم إن مشكلتهم لا تعدو كونها مخالفة بسيطة لقوانين الهجرة ولا علاقة لها بالأحداث الجارية مع أنهم لم يسألوا إلاّ عن “الهجوم”. وبعد ليلة واحدة أطلق سراحهم كلهم إلا 3 رابعهم الشيخ ماء العينين…
في اليوم الموالي بدأت رحلة ولدي مع الحبس الانفرادي ونقله من مركز اعتقال إلى مركز آخر. وكان التشنج بادٍ على الشرطة بسبب الضغط عليها وحاجتها الملحة إلى تحقيق “إنجاز” يرضي الرأي العام والصحافة والإعلام. كان لا بد من “فبركة” شيء ما يفيد باختراق التنظيم السري و “القبض” على المجرم الذي دبّر الهجمات من داخل أمريكا .. ههه
كنت حينها مديرا موظفا في الحزب الجمهوري ونائبا في الجمعية الوطنية. بدأت أتحرك هنا وأجري ما تيسر من الاتصالات .. السفر إلى أمريكا ممنوع وتأشيرة الدخول مرفوضة. لم يمضِ أسبوع واحد حتى تبين لي أن “بوش” كيّف حربه على أنها حرب عالمية ضد الإرهاب لا يتخلف عنها إلا فاجر ومارق وشرير. وتبين لي أن العالم بأسره انخرط معه في حربه بما فيه من دول وحكومات وجيوش ومخابرات وأحزاب ومنظمات مدنية،،، حتى الهيئات المدافعة عن الحريات وحقوق الانسان أذعنت واندفعت وراء أمريكا. لا صوت يعلو فوق صوت “بوش”. لا دولة ولا قوة في العالم استطاعت رفض طلباته أو مخالفة سياساته.. كانت تصلني لأخبار عن تعاون وتضامن الجالية الكريمة مع الطفل وإحساسها بأنه مظلوم؛ ولكني شخصيا لم أتدخل ولم أتحدث إليهم مخافة تسييس الموضوع. وأسجل هنا شكري وتقديري للجالية جميعا وأخص بالذكر السيد بلاه سيد أحمد. كما أشكر وأهنئ الأستاذ “دنيس اكلار” محامي الولد الذي بذل ما بوسعه لإخراج الشيخ ماء العينين من غيابات الجب.
يوم 30-9 حدثني السفير الأمريكي في مكتبه هنا، وقال: “السيد النائب قلبي معكم . يبدو أن شكوكا قوية تحوم حول ولدكم. إن بيد الشرطة ما يكفي لاتهامه بالضلوع في عملية الهجوم بالطائرات على أمريكا”. وأضاف: “إنه شاب عربي مسلم قادم من السعودية عبر قطر شهر مايو الماضي . وقبل السعودية مكث زمنا في سوريا. وملامح وجهه تشبه إلى حد كبير ملامح وجه أحمد عطا المنفذ الرئيسي للهجوم. زد على ذلك أنه اختفى يوم الحادث و بعده يوما أو يومين. وأخشى ما أخشاه أن يكون لدى الشرطة معلومات تفيد بأنه زار إحدى مدارس الطيران. إنه الآن بين يدي المباحث ولديه محامي دفاع متخصص في شؤون الهجرة. وأطمئنكم باستقلالية وجودة القضاء الأمريكي”. شكرت سعادة السفير على ما أعطاني من معلومات عن “ملف” الابن. وفوضت أمري إلى الله.. وانتهى الموضوع بإطلاق سراحه يوم 22 اكتوبر بكفالة 2000$ وحجز ما على ذمته من نقود لتبدأ مرحلة الخروج من الولايات المتحدة الأمريكية. وجد الشيخ ماء العينين صعوبات كبيرة بسبب خوف شركات الطيران من حمله ورفضها لاستقباله؛ إلا أنه بفضل الله وبعد تدخل المحامي وسلطات الهجرة وجد مقعدا على متن طائرة مغربية متجهة إلى الدار البيضاء..
إن موضوع 11-9-2001 وما تلاه من جنون ورعونة وحماقة لا يخضع لمنطق قانون ولا عقل ولا عرف، بل يخضع لمنطق واحد؛ هو منطق القوة والتجبر والإملاء الأمريكي. وقد رضخ العالم بأسره لإرادة “بوش” وجماعة المحافظين الجدد الذين ساموا الناس سوء العذاب، سجنوا الابناء وسرقوا الاموال واهانوا العباد واهلكوا الحرث والنسل داخل أمريكا وخارجها.
محمد فال ولد بلال