العراق بلا كهرباء مع الحر اللاهب الذي يصل الى درجة نصف غليان الماء وأكثر، لبنان لم يعد قريباً من الكارثة، هو في كارثة، فلا كهرباء ولا دواء، وسوريا ربع سكانها أصبح معوقاً ويطلب العون من أي كان يستطيع أن يُعين أو يلبي، واليمن يعاني نقصاً في الدواء بل في الغذاء ومهدد بالمجاعة! ترى ما هو الذي يجمع كل تلك البلاد؟ في الغالب التدخل الإيراني، فهو موجود في سوريا (يقول بناء على طلب السوريين)! وموجود في اليمن (يصمت لأن الشرعية لم تدعه بل ضده) وفي العراق من خلال الميليشيات المؤتمرة بأمره، وفي لبنان من خلال حزبه. ولكن هل كان يمكن أن يفعل كل ذلك (التدخل النشط) لو لم يجد له مجاميع تحت شعارات مختلفة تتبعه؟ لا أعتقد ذلك! والاستراتيجية أضحت واضحة وخطوطها العريضة هي (تجنيد شريحة تمكنها إيران من فائض قوة عسكرية على بقية المكونات الأخرى في الوطن، تغذيها بالمال للدعاية وعصابات لإسكات المعارضين بكواتم الصوت أو المتفجرات).
إذاً القضية التي يجب أن ننظر اليها هي كيف استطاعت إيران تجنيد كل تلك القوى في تلك المجتمعات لاستخدامها أولاً لهدم الدولة، ومن ثم توجيه تلك القوى لتحقيق أهداف ترغب فيها من دون اهتمام بكل هذا الخراب؟ إن السبب جزء من العرب في تلك الدول، إما نكاية بما تجده في وطنها فالتحقت بالمشروع أو اتّباع أيديولوجية وهمية.
هذا الجزء التحق بإيران على مدى طويل من السنين ولأسباب مختلفة. في الجانب السوري اللبناني، كانت العلاقة العدائية بين شطري البعث (السوري والعراقي) هي أساس ذلك التدخل ومبتدأه، فقد قرر حافظ الأسد نكاية بخصمه (في حروب الأعدقاء) أن يقف مع إيران في حربها مع العراق، ومن هناك بدأت العلاقة، كان واضحاً أن قرار البعث العراقي الدخول في صراع مسلح مع ثورة جديدة هو (عمى سياسي) لم يقرأ من التاريخ أو يفهم منه شيئاً، فجاءت نكالاً على العراقيين بعد ذلك، ولكن العلاقة بين سوريا وإيران نمت حتى احتاج النظام السوري منذ عشر سنوات لأن يقمع السوريين فاستعان بقوة بإيران والروس، والأولى كان ولا يزال لها أهداف خاصة بها، في مرحلة الأب (حافظ) كان النظام السوري مهيمناً على لبنان (من جديد بموافقة شريحة من اللبنانيين) وفرضت تلك الهيمنة وجود فريق مسلح (حزب الله) والذي فرض أيضاً هيمنته على النشاط السياسي لطائفته في (حرب الإخوة) مع تجريد الباقين من أي وسيلة غير الكلام والاحتجاج، فطغى السلاح لغة وفعلاً على أي لغة أو فعل آخر، بيع ذلك كله تحت شعار (تحرير فلسطين)! والجميع يعرف أن ذلك هو فقط شعار يباع للسذج، وتحالف الحزب بشكل لا يخلو من انتهاز الفرص مع شريحة لبنانية ترغب بالسلطة حتى لو كانت السلطة على كوم من (الخرائب)، ما أوصل لبنان الى الكارثة التي يعيشها اليوم.
في العراق جذور القضية أن مجموعة بعثية صغيرة تتصف بالغرور والصلف، اختارت طريق الصدام أولاً مع ثورة شعبية، ولم تكن تلك المجموعة على استعداد لمشاركة القطاعات العراقية الأوسع السلطة والثروة، ولو فعلت ذلك لكان ذلك حرياً أن يمتص وهج الشعارات القادمة من الشرق، بل اختارت الكثير من القمع وإجلاء مواطنيها الى الشرق ثم حرباً شعواء خسرتها، وبعد ذلك زاد الصلف باحتلال بلاد مسالمة جارة، كل ذلك مع انشقاقات داخلية عميقة أوصلت العراق الى احتلال يعرف ما لا يريد ولكن لا يعرف ما يريد، فسهل بعد ذلك تجنيد جماعات مؤتمرة بأمر طهران، واستراتيجيتها أن لا تقوم للعراق قائمة بل يبقى كسيحاً حتى لو مات نصف شعبه! ما دام جزء منه في قبضتها.
في اليمن جعل فشل القوى اليمنية وتبعثرها، وطموح المرحوم علي صالح للبقاء في السلطة (الى الأبد)، من مجموعة طامحة مدججة بالسلاح، تقفز على العاصمة وتنتهك كل المحرمات، بما فيها (قتل الحليف الذي مكنهم)، ومن ثم تدخل في حرب لخدمة أهداف إيران وتحوّل الحرب صناعة دائمة وقودها عظام اليمنيين وقوتهم.
أمام هذا المشهد الذي يصاحبه أيضاً مشهد آخر هو تخلي الدول الكبرى التي كانت لها مصالح عن حرق أصابعها في هذا الأتون، سوف تبقى هذه الجبهة نازفة، وسوف نرى مشاهد من القمع والفاقة ونرقب جحافل أخرى من النازحين المعوزين، وكثيراً من العنف الهمجي الذي سيكون مركز انطلاقه من أفغانستان بعد "طالبان"، والأرض المباحة في سوريا، ممولاً بمال أناس لا ينظرون إلا تحت أرجلهم، وبالتالي فإن الشرق الأوسط مرشح للجنوح الى العنف والشقاق، أساسه غياب تام للدولة الحديثة، وربما يتلفت قبل فوات الأوان من لا يزال قادراً على الفعل ويبدأ بخطوات جادة لإقامة الحد الأدنى من أسس الدولة الحديثة، ذلك يحتاج الى شجاعة قراءة الواقع واحتمالات المستقبل في اتخاذ القرارات المناسبة للشروع في بناء المؤسسات، الخيار الآخر أن تستثمر إيران في (أجواء الرفض من أجل الرفض) لتوسيع رقعة الفوضى ليصل الجميع الى الكارثة كما وصل اليها المجتمع الإيراني اليوم.
*نقلاً عن "النهار"