صور الاشتباك باليد في مجلس الأمة الكويتي في الأسبوع الماضي طافت بمعظم وسائل الإعلام المسموعة والمكتوبة والإلكترونية. هذا الاشتباك هو عرض لمرض ينبئ عن تصدع في المشهد السياسي ناتج من أزمة مؤسساتية عميقة. لا ينكر أحد أن أي مجتمع لا بد أن يكون بين مكوناته صراع ما، صراع ظاهر أو خفي، اقتصادي أو اجتماعي أو سياسي، تلك الطبيعة الثانية للمجتمعات، فهناك «سياسة» ما في المدرسة والجامعة والحي والشركة وبطبعها مختلف عليها. في بعض الأوقات يأخذ الصراع شكل حروب، إما ساخنة أو كلامية قاسية، وقد يقود إلى انشقاقات مجتمعية أو ثقافية. ولأن وجود الصراع حقيقة، فقد توافقت المجتمعات على وجود مرجعيات، إما مكتوبة أو مدونة في شكل سوابق قانونية يعود إليها الجميع في حال الاختلاف وتقبل الأطراف الرأي الصادر عنها. في حال الأزمة ينظر الفرقاء إلى تطوير أو حتى تغيير تلك المرجعية «المؤسسات» من أجل إعادة الملاءمة بين مصالح ورغبات المجاميع المختلفة. صيرورة العمل السياسي في الكويت خارجة عن ذلك السياق. فرغم وجود الدستور لأكثر من نصف قرن، وقد تكون على بعض نصوصه ملاحظات، ورغم وجود المحكمة الدستورية المنوط بها تفسير ما اختلف عليه، ووجود لوائح ناظمة للعمل البرلماني، فإن كل تلك المرجعيات لم تُمكن من العمل في مجلس 2020 الحالي، والذي فضّ انعقاد دورته الأولى الأسبوع الماضي، وبقي العمل التشريعي في معظم الأشهر من دون عمل حقيقي ينفع الناس. الرأي العام الكويتي منقسم لهذا الفريق أو ذاك، بعضه عن وعي، وبعضه عن قلة وعي، وقليل منه ربما لمصلحة، إلا أن الفرقاء لا يحتمل أي منهم رأي الآخر، بل ويُسفهه، ولن أعدم من يفعل ذلك تجاه ما أسطر. ما هو معلن من غير القابلين بالمرجعية الدستورية أنهم يرغبون في تغير «الرئيسين» رئيس مجلس الأمة، ورئيس الحكومة، وطبعاً هذا ممكن في حال تفعيل والانصياع لأليات وضعت تؤدي إلى تلك النتيجة، إلا أن الفرق هو أن هذا الفريق يرغب «الآن وحالاً» في التغيير، وإلا لن يقوم بالتعاون بتسيير أعمال المجلس التشريعي ويتم تعطيل مصالح الجمهور العام. النصوص القانونية من أجل التغير واضحة بصرف النظر عن الأشخاص. فرئيس المجلس ينتخب من أغلبية المجلس في الجلسة الأولى بعد إعلان النتائج الانتخابية وأداء القسم للوزارة المشكلة، وهو يبقى رئيساً حسب اللوائح إلى انتهاء الفترة القانونية للمجال الزمني الذي يأخذه المجلس المنتخب (نحو أربع سنوات)، أو إذا حل المجلس وانتُخب مجلس جـديد، أما تعيين رئيس الوزراء فهو حق مطلق لأمير البلاد، ويستطيع المجلس بنسبة معينة إعلان عدم التعاون معه، ويبقى للأمير الحق في إما إعفاؤه أو حل المجلس والدعوة إلى انتخابات عامة. وأي اختلاف حول النصوص يقع يقينه عند المحكمة الدستورية وحكمها هو عنوان الحقيقة، كما يقول المتخصصون.
ما يُحير المواطن، أن تلك الآليات يبدو قد ضرب بها عرض الحائط من البعض. ولدى هذا المواطن المتضرر ملاحظات على أعمال الحكومة أو أحد أعضائها أو رئيس المجلس، وقد تكون محقة، إلا أن أعضاء هذه الشريحة مصابون بالحيرة في مد الصراع إلى عبثي نتج منه خسارة الوقت، وتأخر الخدمات للمواطنين وشخصنة الموضوع، وتقف هذه الشريحة وفي ظني واسعة حائرة أمام وضع يأخذهم إلى طريق مسدود. قد ترى هذه المجاميع الشعبية أن ما يهدر من طاقة يدفع ثمنه الناس العاديون، ويتساءل: هل الأمر يخفى على الجميع أن البلاد تواجه تحديات كبرى، منها التعامل مع وباء يطوف العالم ويحصد الأرواح، ووضع اقتصادي غير مريح وتعطيل المؤسسات إلى أزمات في القطاع الخاص الإنتاجي والخدمي، إلى أزمات تعليمية أطلقتها تلك الجائحة، وإلى معضلات في القطاع الصحي، إلى تراجع في مؤشرات التنمية والأخطر الكويت في إقليم مضطرب يتقاذفه طوفان الأخطار؛ ما يشكل خطورة على الأمن الوطني، أليس الأولى أن يرجئ الجميع خلافاتهم من أجل التوافق على الخطوط العريضة لتسير البلاد والاستجابة للتحديات المذكورة؟ والأكثر إلحاحاً، إن كان الاختلاف على عمل المنظومة المرجعية، فلِمَ لم يُقدَّم حتى الآن مشروع يقنع الجمهور بالسعي لإصلاح تلك المنظومة المرجعية وإقامة عوارها من خلال ما وضع من آليات إن توافقت الأغلبية على ذلك؟ ما لدينا حتى الآن هو ما يشبه «الانفجار النقدي الحاد»، وبعضه خارج سياق القاموس السياسي الكويتي وينتشر على وسائل التواصل الاجتماعي شيء قبيح من التنمر، منه ما هو مُسيّر، وآخر مسيّس وثالت يصطاد في الماء العكر ورابع عاشق لصوته وصورته إلى حد التفاهة، وقد يتناقل الناس تلك المقاطع، وخاصة على الوسائل الحصرية كمثل «واتساب»، ويعتقد من وزّعها أنها مقبولة، ولا يعلم شيئاً عن سيكولوجية الجمهور، والذي دائماً ما يميل إلى توزيع المخالف والشاذ؛ لأنها مختلفة وليس لأنه يؤيدها. المؤسف أن بعض متخذي القرار من الأطراف المختلفة يعتقد أن ما يكتب على تلك الوسائل يؤدي إلى توجيه للرأي العام، وهو قصور في معرفة المجتمع الكويتي؛ لأن أكثرية في المجتمع لا تميل إلى التطرف وأخذ المواقف الحادة، والمؤشر على ذلك ردة فعل جماعات من المجتمع الأهلي نشرت رأيها في المشادة التي حدثت في المجلس وأعلنت شجبها لهذا التصرف؛ فقاعة عبد الله السالم وُجدت للحوار والمناقشة المتحضرة، لا التشابك والسباب! أحد مثالب السياسة في الكويت وهو مثلب عربي، شيء اسمه «المزايــدة» التي خسّــرت البلاد الكثير من الفرص وهدرت المال والجهد، وأوقعت البلاد في كوارث مثالها «قضــــــية الداو» المعروفة وغيرها كثير، فغيرنا انتفع بما يملك وطوّر مجتمعه وخسرنا نحن ما حققناه منذ بضعة عقود مضت. قد يرى البعض أنها «الديمقراطية» وذلك تسرع، فصحيح أن الديمقراطية حتى في بيئتها تعاني من أزمات، ولكن الممارسة عندنا زادت على أزماتها أزمة «المزايدة» حتى غدت للبعض أنها الغاية، وهي لا تعدو أن تكون وسيلة. كل فساد سيئ وقبيح، ولكني هنا أقصد فساد الملح الذي لا صلاح بعده!
آخر الكلام:
مهما كان صوتك عالياً وأنت خارج الملعب فلن تغير من نتيجة اللعبة، ممكن أن تتغير النتيجة عندما تشارك في اللعبة.