على مثال تَمَظْهُرِ القوّة في القدرة العسكريّة والقدرة العلميّة والقدرة الاقتصاديّة والسّياسة تتمظهر هذه في الإيديولوجيا أيضاً؛ فالإيديولوجيا - في التّحليل الأخير- فعلٌ من أفعال القوّة، ولكنّها تبدو أقرب ما تكون إلى القوّة "النّاعمة".
ومع أنّ القوّة التي تكون من هذا النّوع "النّاعم" تخلو من أدوات الإيذاء الماديّ، إلاّ أنّها قد تفضي - عند حدٍّ من فعلها - إلى إحداث إيذاءٍ رمزيّ مطابقٍ لنوع العنف الذي تُضمِره: العنف الرّمزيّ. في الأحوال جميعِها، لا يغيّر من "نُعومة" قوّة الإيديولوجيا أنّ هذه تقود إلى عينِ ما تقود إليه، أحياناً، القوّة الحربيّة والحصار الاقتصاديّ وسياسة الإملاءات من نتائج ليس أقلّها فرض الخضوع على من يَقع عليه فعْلُها.
الإيديولوجيا، حقّاً، آليةٌ من آليات الإخضاع. ولا يغيّر من أمر الإخضاع هذا أنّه لا يكون دائماً، وفي جميع أحواله، إخضاعاً بالإرغام والقسر: نظيرَ ذلك الإخضاع الذي تفرضه الحروب والعقوبات الاقتصاديّة والهيمنة والضّغط السّياسيّ. يكفي أن ينتهيَ الفعلُ الإيديولوجيّ إلى حَمْل مَن يَقع عليه على النّزول عند رأي - أو إرادة - مَن يوجِّه التّأثير الإيديولوجيّ إليه، ليحصُل بذلك خضوعُ الثّاني للأوّل ونزولٌ عند إرادته. لا يمكن فهم هذا المثلث (إيديولوجيا - قوّة - إخضاع)، وكيف يتولّد الخضوعُ من ممارسة القوّة الإيديولوجيّة، إلاّ متى عدنا إلى تحديد مفهوم الإيديولوجيا.
للإيديولوجيا مفهومات ثلاثة استقرّت عليها معانيها منذ القرن التّاسع عشر هي: الوعي الزّائف أو المغلوط؛ رؤية إلى العالم والمجتمع والوجود؛ ثمّ رؤية تكوّنها طبقة اجتماعيّة عن نفسها وعن مصالحها وعن غيرها من الطّبقات تكون (أي الرّؤية) منسجمةً ومصالحها كطبقة. سنكتفي من هذه بالمفهوم الأوّل منها لمطابَقته لنوع الموضوع الذي نتحدّث فيه: أي الإيديولوجيا بوصفها فعلاً من أفعال القوّة.
إذا انطلقنا من القاعدة التّاليّة التي تقول: إنّ النّظرة الإيديولوجيّة هي النّظرة التي تهدُف إلى تزوير الوعي وتغليطه وتقنيع الحقيقة أو طمسها، لَترتَّب عنها القول إنّ مثل هذه النّظرة وَقع التّعبير عنها، في العالم المعاصر، من طريق وسائط مختلفة: مكتوبة ومسموعة ومرئيّة، هي وسائط التّواصل الفكريّ والسّياسيّ والإعلاميّ. ربّما كانت الكتب والدّراسات هي الحوامل الأولى لمثل تلك النّظرة في زمن مضى (ولكنّه ما زال مستمرّاً). ومعنى ذلك أنّ الجمهور المتلقّي للخطاب الإيديولوجيّ كان محدوداً، بل كان نخبويّاً. ثمّ اتّسعت دائرةُ التّعبير عنها حين بدأ صدور الصُّحف كحوامل جديدة أكثر جماهيريّة وأوسع انتشاراً في المجتمع القارئ. وزاد الاتّساع بظهور الأحزاب السّياسيّة وصيرورة الإيديولوجيا جزءاً من عُدّةِ اشتغال الخطاب السّياسيّ الحزبيّ. وما لبث منعطفٌ جديد أن نشأ بنشوء الرّاديو والبثّ الإذاعيّ، مع ثورة التّرانزستور، الذي تحوّلت به الفاعليّة الإيديولوجيّة من خطاب مكتوب وموجَّه إلى النّخب القارئة إلى خطاب مسموع موجّه إلى عموم النّاس. أمّا المنعطف الأكبر فكان ركوبُ الإيديولوجيا صهوةَ الإعلام البصريّ، منذ منتصف القرن العشرين، وخاصّةً منذ تدفّق موجات العولمة (السّمعيّة- البصريّة- الرّقميّة) بدءاً من سنوات التّسعينيّات. ومنذ ذلك الحين عَلاَ كعبُ الخطاب الإيديولوجيّ في العالم، وبات الأظهرَ في كلّ الخطابات والأشدَّ تأثيراً والأوسع انتشاراً.
حين وَقَع تركيب الإيديولوجيا على الوسائط الإعلاميّة، تضاعفت قوّتُها وباتت قابلةً للتّسخير في ما يُجاوِز مجرّد الأهداف الإيديولوجيّة التي يتغيّاها كلّ متوسّلٍ للتّفكير الإيديولوجيّ. أصبحت، بهذا المعنى، سلاحاً ذا فعاليّة جزيلةِ العوائد لدى جميع من يخوضون معارك المصالح؛ فالإيديولوجيا إذا كانت تُجافِي الحقيقة وتَطْمِسها أو تضع عليها قناعَ الحجب، تُوائمُ المصلحةَ وتقترن بها لأنّ على المصالح مبناها وأساسَ وجودها.
ماذا نسمّي الحمْلات الإعلاميّة، اليوم، التي تنخرط فيها الصّحف، والإذاعات؛ والمحطّات الفضائيّة، ومراكز "الدراسات" المتخصّصة في تضليل الرّأي العامّ، والشُّعَب والمجموعات المرتبطة بوكالات الاستخبارات، المكلّفة بتسويق معلومات أو صُوَر مختَلَقة عن العدوّ أو الخصم... غير أنّها تنتمي إلى أسلوب الحرب الإيديولوجيّة (وقد تكون متساوقة، في الوقت عينِه، مع حربٍ عسكريّة أو اقتصاديّة أو مع ضغطٍ سياسيّ كثيف)؛ الحرب التي تَتَغَيَّا شيطنة الخصم أو العدوّ، والتّحريضَ ضدّه، وتبريرَ إجراءات عقابيّة في حقّه لدى الرّأي العامّ، كما تتغَيَّا النّيل من معنويّاته: بإخافته وعزْله في الزّاوية وتمريغ سمعته وإيقاع تفكيره وسلوكه في الارتباك؟ إنّ أكثر العدوان في العالم صار يجري، اليوم، من قناة هذه القوّة الإيديولوجيّة مجسَّداً في الحروب الإعلاميّة.
ليس يَقْوى على خوض مثل هذه الحرب الإيديولوجيّة إلاّ منِ احتازوا مواردَ القوّة الأخرى (العلميّة، والعسكريّة، والاقتصاديّة، والماليّة، والسّياسيّة) مثل القوى الغربيّة الكبرى. وهذه الأخيرة تُسْعِفها قدْراتُها الاستراتيجيّة الهائلة في الميادين تلك كي تُحْرِز نجاحاتٍ كبرى في حروب الإيديولوجيا. ولكن، تُسْعِفُها في ذلك، أيضاً، عقيدةُ القوّة التي تسْكُن ثقافتَها
عبد الإله بلقزيز كاتب ومفكر مغربي