أرجو أن تعلقوا طبعنا الهائج بضع دقائق حتى نهاية المقال، وسوف أتولى عنكم قذف السيل المعهود الذي يُطلق في وجه الحقائق التي يصعب تقبّلها: «إمبريالي، رجعي، انهزامي، ذيلي ومفرّط» دائم في المعنويات الوطنية، حيث، وحيثما، وإذا ما وجدت. تجربة «الخليج» في أي حساب، على أي مقياس، بأي مقارنة، تفوق جميع التجارب العربية. مرّت الدولة الكبرى مصر بمراحل واضطرابات وأزمات، حدَّت من نهوضها وطاقاتها وإمكاناتها، ولم تعد إلى سباق النمو المتوقع، إلا في السنوات القليلة الماضية. ومنذ الزعيم الأوحد يدخل العراق كل يومين ما بين أزمتين ونهرين وحربين وحزبين وطائفتين وهجرتين. يدخل الكويت محتلاً ويستقبل إيران محتلاً أيضاً. وتسابقه سوريا أيضاً على الطريق ذاتها: دجلة والفرات. وتفقد سوريا نحو نصف مليون بشري، ويهجرها 12 مليون مواطن، وتُدَكّ أرضها، وتشل مصانعها، وتحاول عملتها مقاومة الحضيض. لكن الثورة هُزمت والفوز بالانتخابات كان هائلاً. نعرف طبعاً ما هو الرد: النفط. الخليجيون نجحوا لسبب هذه المنّة الإلهية، صحيح. لكنها لم تتفجّر عندهم فقط. تفجّرت في العراق وسوريا وليبيا والجزائر. ويرجى ممن يعرف ماذا فعل النفط في تلك البلدان أن يبلغ عنه. ويرجى من علماء العرب وخبرائهم وحكمائهم أن يفسروا لنا سبب الفارق المريع، بين الدول النفطية وبين بلد غير نفطي أو مائي، بلد مثل دبي. ولماذا يكون فرع جامعة هارفارد في دبي، وليس في بغداد، ولماذا تهدد أعرق وأقدم الجامعات في لبنان بالإغلاق، بينما يتخرج الخليجيون بالآلاف من أهم جامعات العالم.
هل هو النفط؟ إن فنزويلا، رفيقتنا في النضال ضد الاستكبار العالمي، من أهم وأقدم دول الزيوت في العالم منذ اكتشافها. واليوم لديها خطباء مبدعون وصور تذكارية مع محمود أحمدي نجاد، وسجل خاص بالزوار العرب من خلف الممانعة، لكنها تفتقر إلى الخبز والطحين وزيت الوقود، وإلى عملة يقبل التعامل بها في أي مكان في العالم.
كان المهاجرون اللبنانيون يسافرون إلى فنزويلا في الأربعينات والخمسينات ليعودوا بالثروة. والآن يعودون مفلسين إلى بلد نصب عليهم حسابات التوفير، وأصبحت عملته عضواً شرفياً في مجلس النقد الممانع، يتقدمه التومان الإيراني.
هل تريد أن تعرف سبب كل هذه الفوارق، على مدى كل هذه السنين؟ طبعاً، الجواب الواحد هرطقة غير مقبولة. لكن فقط للاختصار، إنه الفارق بين مدرسة الخيمة، أو «البدو» كما قال وزير خارجية لبنان ذات حكم وحكومة، وبين «المدرسة الحربية». لا تسئ فهمي، كما كان يقول الضاحك سعيد صالح. الكثيرون من حكام هذه المنطقة، وبينهم محمد بن راشد، من خريجي ساندهيرست. لكنهم تعلموا هناك الجندية لا العسكريتاريا، وتدربوا على حماية الوطن والناس وليس على ثقافة الجزمات واحتقار الشعوب ودفن حرياتها وحياتها وكراماتها تحت المنشورات المستعارة من كل فشل سبق. أهم درس في الخيمة، (بدو معالي الوزير) هو التواضع. «أبناء زايد» الذي بنى هذه الدولة، لا يخاطبونك إلا «يا سيدي». وفي هذه البلاد كان الشيخ نهيان بن مبارك وزير الثقافة، أول خريج من أوكسفورد. اتصلت به من دبي أقول: إنني كنت أتمنى زيارته لكنني يبدو أن إجراءات «كورونا» تحول دون الذهاب إلى أبوظبي. فماذا كان الجواب؟ «لا تهتم. أنا ذاهب إلى دبي ونلتقي فيها».
إلى اللقاء...