إعلانات

ديوان "البافور" يدفع قادة العمل الثقافي الموريتاني إلى نقاش ملف الحداثة

أحد, 22/01/2017 - 15:22

افتتحت "جمعية التواصل الثقافي المغاربي" موسمها للعام 2017 بندوة نقدية وأدبية خصصتها لتقديم ديوان الشاعر المختار السالم أحمد سالم، (البافور) الصادر عن ( دار القرنين) بنواكشوط، وذلك، يوم الخميس 20 من ربيع الثاني 1438 الموافق 19/01/2017  بمدرج المعهد العالي للدراسات والبحوث الإسلامية.

هذه الندوة الأدبية والنقدية انطلقت فعالياتها ابتداء من الخامسة والنصف مساء، وبحضور كبير من بعض الأساتذة الجامعيين وشخصيات علمية وثقافية وجمهور علمي متنوع ضم بعض طلاب الدراسات العليا بالمعهد العالي وجامعة نواكشوط.

تمت إدارة الندوة من طرف د/ عبد السلام ولد حرمة عضو هيئة البحث في الجمعية، وتولى د/ أحمد دولة ولد محمد الأمين، أمين عام الجمعية، إعداد ورقة تعريفية بالديوان، وتم إعداد المحاضرة المخصصة لتقديم العمل من طرف د/ الزائر محمد بدي ولد أبنو المقيم في أوربا منذ مدة من الزمن.

افتتح د. عبد السلام ولد حرمة الندوة بالترحيب بالحاضرين لاهتمامهم بالدور الذي تسعى الجمعية إلى أن تضطلع به بإشراك المجتمع العلمي والأكاديمي في تشجيع الثقافة الجادة القائمة على النقد الرصين والإبداع  ومحاربة الميوعة وإفشاء قيم الحداثة المنسجمة مع رسالة الأمة وقيمها الروحية الحضارية، وخص بالشكر الدكتور محمد بدي ولد أبنو الذي تكلف وقت وجهد السفر من باريس إلى نواكشوط للمشاركة خصيصا في هذه الندوة، كما ذكر ولد حرمة نماذج من عشرات الأطروحات الجامعية والكتب والأعمال التي سبق للجمعية أن قدمتها منذ تأسيسها 2005 إلى الآن.

حاولت ورقة الدكتور أحمد دولة تعريف الحاضرين بديوان "البافور" مبرزة أن طبعته الأولى جاءت في 110 صفحات من الحجم المتوسط، وشملت 32 نصا شعريا اعتمد فيها الشاعر قصيدة النثر، التي لا ترتبط  بوزن أو قافية، وهما علامتان رافقتا القصيدة العربية منذ نشأتها رغم استثناءات نادرة لم تلحظ في الحركة الإبداعية العربية على نحو من الكثافة والتواتر قبل حركة الشعر الحر التي ذكر الدكتور أحمد دولة أن بداياتها كانت في سنة 1932 مع أسماء لم تعلن عن نفسها مخافة الرقيب حتى ظهور حركة الشعر الحر مع نازك الملائكة والسياب بداية من 1945، وهي المرحلة التي مهدت لاحقا لقصيدة النثر التي غلبت ملامحها على نصوص ديوان "البافور" للمختار السالم.

الدكتور محمد بدي أبنو ركز في تناوله للديوان على الحداثة كمفهوم لكونها هي الخلفية التي تحكمت في الصياغة الإبداعية لنصوص ديوان "البافور"، معتبرا أن الحداثة كمفهوم عاني من غموض والتباس ومحاولة تأميم من طرف الغرب الذي يسعى لمركزية حضوره ودوره في مختلف المفاهيم المعاصرة، كما حاول الدكتور بدي أن يزيل لبسا رافق مفهوم الحداثة في دائرة ثقافتنا العربية، وتحديد المرحلة التاريخية التي بدأت فيها وهو ما شوش إلى حد الآن على الجهود العلمية التي سعت لتحديد مضامينه وتركيباته وحدوده. فهل هو مرتبط بالزمن الحاضر، أم نسق من المفاهيم والتصورات الفكرية والفلسفية المفتوحة قوامه سعي لا ينقطع للكشف عن ماهية الوجود، وإشكاليات العصر التي تثقل على الوجود الإنساني وتضعه على الدوام أمام المحن والتساؤلات التي لا يستطيع الإجابة عليها إلا من امتلكوا موهبة التفكير وقوة الشعور، ومن هؤلاء يمكن أن نصنف الشاعر المختار السالم المغامر دائما وبلا هوادة في كل مرة نحو أفق جديد كما هو حاله مع  ديوان ( البافور) في عنوانه وطبيعة صياغته الإبداعية التي لابد أن صاحبها يبحر في موجات الحداثة رؤية ولغة وأسلوبا.

الدكتور محمد بدي أبنو وزع محاضرته إلى ثلاث نقاط مركزية - كما أشرنا آنفا- تفرعت عنها في السياق العام عشرات النقاط ضمن ملف الحداثة بشكل عام، وإحالاته الدينية والسياسية والثقافية والاجتماعية، منذ ما قبل ميلاد المسيح (عليه السلام)، إلى العهد المسيحي الأول، ثم مجيء الدين الإسلامي، والصراع الفلسفي حول "تطور العقل العلمي" الذي يستمر الآن في الغرب وبعض مناطق العالم، متجليا في سجالات بين فلاسفة ومفكرين معاصرين معروفين. ثم انعكاس كل ذلك على الأدب وعلى الشعر خاصة.

كانت النقط الأولى، في محاضرة ولد أبنو حول الأسباب التي دفعته ككاتب لمقدمة ديوان "البافور" إلى "الاحتفاظ بمسافة تجاه الديوان حتى يظل عملا أدبيا مستقلا بذاتها.. يقدم نفسه إلى القارئ بما هو وكما هو".. وبالتالي حرص صاحب المقدمة على أن تظل في مستوى نشر العمل، أي جزء من العناصر الخارجية.

من هنا ركزت المقدمة بحسب المحاضر "على ماذا يعنيه ديوان "البافور" كفعل إبداعي سياقيا.. وبالتالي التساؤل حول موقعه في اصطدام زَمَنيْ الكتابة المحلية والكتابة كممارسة غير مقيدة مكانيا.  يطرح ذلك بشكل خاص سؤال الحداثة في بلد يفترض غالبا أنه الأبعد عنها. كما يطرح السؤال المقابل عن كون هذه الفرضية بالذات (البلد الأبعد عن الحداثة) قد تعني أنه الأكثر قدرة على مساءلتها".

كما "يطرح السؤال الثالث حول الفرضية نفسها.. أليست كل بلدان الجنوب في أنساقها الدولتية والتربوية... إلخ.. نتاجا مباشرا لزمن الحداثة و"لانتصاره" على الزمنية المحلية؟.. أو بصيغة أخرى هل اصطدام الزمنين، الزمن الآخر و"زمن الذات" يعني بالضرورة انتصارا لمزمن الآخر؟.. إلى آخر الأسئلة الممالثة".

ولهذا تناولت النقطة الثانية "ما الذي يمكن أن يعنيه سؤال الحداثة وما بعد الحداثة.. وما الذي لفت الانتباه إليه في الثمانينات في موريتانيا؟ ولكن ما الذي يمكن أن يعنيه صدور عمل يدعي هذه الحداثة في الفترة الحالية بعد أن سادت الأطروحة التي كان المحاضر قد ركز عليها في مقدمة ديوان "صلوات المنفى الباريسي" (الصادر 1998)، أي فشل مشروع التحديث؟ وبالتالي على الصعيد الجمالي عودة هيمنة الذائقة التقليدية حتى على الفضاءات الناشئة التي كانت تتحمس لربط نفسها بالحداثة ومشروعها"، وفق تعبير ولد أبنو.

في المستوى الثالث توقف المحاضر "عند نقطتين في ديوان البافور.. إحداهما كونه يقدم نفسه كقصائد نثرية وهو ما يربطه بمشروع الحداثة بالمعنى "البودليري". بينما يدشن نصوصه بعبارة "هذا ليس شعرا"، التي تربط من خلال لوحة "مغريت"، الشهيرة "هذا ليس غليونا"، بمشروع ما بعد الحداثة".

يضيف ولد أبنو "بهذا المعنى فإن السؤال لا يتعلق بالديوان نفسه في بنيته الذاتية أو بتقويمها ولكن بما يطرحه وجوده في سياق تزداد فيه الذائقة التقليدية احتفاء بذاتها وبالخطاب المؤيد لها".

كان الأستاذ الدكتور محمد ولد أحظانا رئيس اتحاد الأدباء والكتاب الموريتانيين أول المتدخلين واعتبر تجربة الشاعر المختار السالم من بين التجارب التي تؤكد أن شهاب النزوع إلى التجديد يشتعل داخل صاحبها ويفرض عليه ( التململ الدائم) سواء وفق أم لم يوفق، مع صعوبة الحكم على ذلك لأن مشكلة الإبداع هي أنه يخرج بأصحابه عن ضوابط التقويم المتعارف عليها.

واستعرض ولد أحظانا رؤيته لأي عمل إبداعي حداثي في كونه يتطلب شروطا أوردها في مقاله سابقا عن رواية "وجع السراب" للمختار السالم، إذ أن على المبدع، يقول ولد أحظانا، أن يخلق نموذجه الخاص، ثم يخرج على ذلك النموذج، لأن الإبداع هو ما بعد النموذج، رغم صعوبة تعريف كل هذه المصطلحات، التي قال ولد أحظانا إنه يسعى مستقبلا لبلورة رؤيتها لها في مفهوم وتعريف نقدي جديد.

أما الأستاذ الدكتور عبد الله ولد السيد، مدير بيت الشعر في نواكشوط، فقد اعتبر ديوان ( البافور) من بين أعمال إبداعية تشي بقراءة صاحبها الواسعة واضطلاعه بمعارف وفيرة ونصوص كثيرة من عصور الشعر العربي المختلفة، مطالبا بضرورة تطهير ساحة الفكر العربي من مفاهيم تجاوزتها الحياة الإنسانية تعطل العقل وتبدد كل إمكانيات التطور والإبداع فمن غير الممكن كما يرى أن نكون في زمن نحارب فيه بالطائرات والصواريخ المجنحة ويصدر فقهاؤنا ضمن فتاوى معاركهم المعاصرة بأن (للرجل سهم وللحصان سهمان).

واستعرض ولد السيد رؤيته للحداثة في الشعر، مستدلا بواقع التجارب الشعرية، وأشار إلى أن من المصاعب التي عانى منها الشعر النثري هو ندرة الجيد منه وكثرة المنتجين للضحل والغث منه، مؤكدا أن على الشاعر أن يلم بالشعر العربي بكل أوزانه ونظمه ومعاييره قبل أن يقفز على بون معرفي شاسع، ويبدأ هكذا كتابة أي شيء ويسميه شعرا نثريا.

ورأى ولد السيد أن من الملاحظات التي سمعناها في كثير من المناطق العربية هي تقليدية الشعر الموريتاني، وبالتالي فإنه من المطلوب أن يخوض الشعراء تجارب حداثية تؤصل للسمعة التي تحظى بها البلاد في مجال فن الشعر.

كانت مداخلات وأسئلة الجمهور متنوعة من بينها مداخلة الأستاذ ممو الخراش رئيس جمعية الإحياء للثقافة والفنون الذي وضع سؤالا محوريا على المحاضر وهو : ما هو التاريخ الذي بدأت فيه حداثتنا العربية؟ قبل أن يفسح المجال للشاعر المختار السالم للحديث عن بعض الظروف والأزمنة الإبداعية التي مهدت لبعض رواياته ودواوينه الشعرية، وآخرها ديوان "البافور"، الذي نفدت نسخه من دار النشر ولم تتمكن الجمعية من الحصول على أعداد منه تنظم بها فقرة حفل توقيع نسخ منه كانت مقررة.

هذا ويشار إلى أن الخلاصة التي خرجت بها هذه الندوة الهامة بمضمونها وطبيعة ومستوى المحاضرين والمشاركين فيها هي أن الأدب الموريتاني أصبح بحاجة ماسة إلى اقتحام الحداثة وما بعد الحداثة ليواكب حركة الشعر العربي والعالمي، ولن يكون ذلك إلا باقتحام الشعراء الموريتانيين لآليات الحداثة وأبعادها الفكرية والفلسفية وتقنياتها التي تتجاوز النموذج والقالب الروتيني إلى ابتكار نموذجها الخاص مع الحفاظ على فنية الشعر ضمن المفهوم الحديث لهذا الفن، والذي يحتفظ بالشاعرية كصفة سامية على كل ما سواها من قوالب ونظريات.