إعلانات

مُحَادَثَةُ ؛ الخَلِيل ؛ .. القاضى أحمد المصطفى

اثنين, 14/11/2016 - 20:27
القاضى أحمد عبدالله المصطفى

حَدَّثَني أنه ذات غيبة لـ لصاحبه بالجنب، بقي في المكان، وكل شيئ حوله يذكره بالغائب، وكانت النَّوبَةُ "فَمُ الشِّتَاء"، والليل على عهده القديم، طولا ووحشة ونكاية بالمستوحشين، وحَدَثَ أن اتقى بردا خفيفا آخر ليل نواكشوط بلحاف تعود لبسه "الغائب"، فوجد فيه شيئا من دفء، كأنه يعرفه، وكان "فَائِتًا"، فسمع من نفسه:
نَلْبَسْ فَلَّيْلْ "أدْرَاكْ"، إِحِسْ - - فَلَّيْلْ الْبَالْ أبْلَعْمَارَ
لُمَارَيْتُ مَا نَسْمَعْ حِسْ - - أثْرِ - مَنْ بَعْدكْ - لَعْمَارَ
تنبهَ لـ زَغْبَةٍ تتخلل يديه، تخلفت في اللحاف، وطوي عليها، يعرف حَقْلَهَا جيدا، وما كانت لـ "تُوقَدْ أعْلِيهْ أفْلَخْلَاطْ"، حاولَ سلَّها من بين أصابعه، فأبت، و "حَكَّ له ذلك فَمَ قُرَادٍ"، بقدر ما هيج له من ذكرى، فسمع من نفسه:
أتْمَتْلَاتْ أمْعَ يْدِي وَبَاتْ - - الـْفَصْلَ، زَغْبَ مَنْ رَاصَكْ
يَسْوَ، رُوحِي فٓاتْ أتْمَتْلَاتْ - - أمْعَاكْ أنْتِيَّ مَنْ رَاصَكْ ..
حَدَّثْتُه، متعمدا تَنَكُّبَ رَوِيِّه، جَرًّا له بعيدا: عهدتُ "الخليل" في عرف الأسلوب العربي مُخَاطَبًا لا مُخَاطِبًا، مُتَحَدَّثًا إليه بضمير التثنية "خَلِيلَيَّ"، لا مُتَحَدِّثًا واحدا، فمن أين لك تحديثي، وبضمير المفرد؟، والعرب في أشعارها لا تعرف ذلك، اسمع إليهم:
خليلّي مرّا بي على أم جندب - - نُقَضِّ لُبَانَاتِ الفُؤادِ المُعذَّبِ (أمرؤ القيس)
خَلِيلَيَّ عُوجا ساعَةً وَتَهَجَّرا - - وَلُوما عَلى ما أَحدَثَ الدَهرُ أَو ذَرا (النابغة الجعدي)
خَلِيْلَيَّ هذا رَبْعُ عَزَّةَ فاعْقِلا - - قَلُوْصَيْكُما ثُمَّ ابْكِيَا حيثُ حَلَّتِ (كثير عزة)..
لم يمهلني، قائلا: غفلتَ عن تعدد قول المكثر حديثا، أبو هُريرة رضي الله: "أوصاني خَلِيلِي، سمعت خليلي"، وورد مثله عن نَفَر آخرين من الصحابة رضي الله عنهم، وغفلتَ أيضا عن قول أبي دجانة الأنصاري رضي الله عنه: 
أنا الذي عاهدني خليلي - - ونحن بالسفح لدى النخيل
أن لا أقوم الدهر في الكيول - - أضرب بسيف الله والرسول..
قُلْتُ: هذا حسن، لكنه في مقام النبوة والصحبة، ووصف لمعين لا يجهل وهو النبي صلى الله عليه وسلم، ومخاللتهم له واقعة حقا لا افتراضا، والألفاظ التي سقت جاءت بصيغ: سمعت، أوصاني، عاهدني، فتخرج من كل ذلك حالتي وإياك..
قال: إن العرب في خطابها لـ "الخَلِيل" بضمير التثنية، إنما تخاطب في الواقع واحدا، ويسمون ذلك إجراء خطاب الواحد مجرى الإثنين، ومن شواهده قول قائلهم:
فإن تزجراني يابن عفان أنزجر - - وإن ترعياني أحم عرضا ممنعا
ولهذا مدرك في القرآن الكريم، اسمع قول الله تعالى: "قَالَ رَبِّ ارْجِعُون.."، وفي تفسيرها: "ارجعني ارجعني"، وخطابهم "الخليل" بضمير التثنية "خَلِيلَيَّ" إنما يقوم عندهم مقام: "خَلِيلِي خَلِيلِي" تكرارا، ولا يعني ضمير التثنية أنهم يخاطبون اثنين..
قُلْتُ: غَلَبْتَنِي، لولا أن صفو هذا يكدره ما أورده أبو هلال العسكري في جمهرة الأمثال عند المثل: "الذئب خاليا أشد"، ومنه: "..وكان لا يُسافرُ أقل من ثلاثة، وهذا أصلُ قولهم في أشعارهم: خليلَيَّ، صاحبيَّ، وأوَّلُ من ذكره امرؤ القيس: قِفَا نَبْكِ من ذكرى حبيب ومنزل.."، فأصل خطابهم "خَلِيلَيَّ" كون سفرهم لا ينعقد بأقل من ثلاث، ويعني ذلك أن ضمير التثنية مخاطب به اثنان من طرف الثالث، وفي الحديث الصحيح النهي عن سفر الواحد، وأن الثلاثة ركب..
تزاحمت على سمعي أصوات المؤذنين، تَمِيزُ بياض الصبح صادقا، عن نور قمر ١٥ العملاق، فهَلَّلْتُ لتنحل عُقَدُ الشيطان على القافية، وقمتُ عن محادثة خليلي..